آخر تحديث :الخميس-24 أكتوبر 2024-08:20م
أدب وثقافة

ألكتاب الذي أدهش المؤرخ مطهر الإرياني قبل ظهوره.

الخميس - 24 أكتوبر 2024 - 06:23 م بتوقيت عدن
ألكتاب الذي أدهش المؤرخ مطهر الإرياني قبل ظهوره.
((عدن الغد))خاص

بقلم/ عبدالفتاح الحكيمي.


تفاجأت مؤخراً بصدور عمل فكري لغوي موسوعي ثقافي واجتماعي وتاريخي ضخم على عكس ما توقعت من صاحبه الذي حدثني عنه قبل صدوره ب 15 عاماً.

فعندما أخطرني الأستاذ أحمد شرف سعيد يومها بعزمه على تأليف معجم في ألفاظ لهجة أهل ومجتمع المعافر في تعز وعلاقتها بباقي لهجات شمال وجنوب اليمن توقعت اقتصار جهده الثقافي فقط على قاموس تعريفي صغير للألفاظ والمعاني التي نجدها في القواميس التقليدية ومقارنتها مع لهجات باقي مناطق اليمن.

أما ما بين أيدينا فهو الكتاب النفيس ( من اللهجات اليمنية - معجم في لهجة المعافر وتراثها) ألذي يقع في ثلاثة أجزاء كبيرة تشمل أكثر من 1600 صفحة من القطع الكبير بطباعة فاخرة وأنيقة ومحتوى معرفي يصور طبيعة وملامح حياة مجتمع أهل المعافر في القديم والحديث من مدخل لغوي شامل ينفذ فيه المؤلف من خلال الطقوس اليومية وأجواء المجتمع الزراعي والمهاجل والأغاني والتاريخ والوقائع والشعر والأمثال والفلكور والفنون ليكشف ارتباط اللهجات المحلية العريقة بالتغيير وقيم الإنتاج وتحولات المجتمع وثقافته.


كان مؤلف الكتاب الأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي يعمل بصمت وتواضع العلماء..

وكنت أتساءل كلما تذكرت مئات عناوين أمهات كتب التاريخ والثقافة والسياسة الشهيرة على رفوف مكتبته العامرة, هل ذلك لزوم ديكور يحيط بعض المثقفين أنفسهم به أمام زوارهم أم وراء الأكمة ما ورائها.!!


سألني صديق مشترك هو المرحوم يحي طاهر الحكيم.. من تعتقد أكبر قارئ في اليمن.

أجبته على الفور(محمد حسين عامر) وأطلق ضحكة مجلجلة.. مش مقرئ القرآن , ولكن قارئ كتب.

واستدرك : هو أحمد شرف سعيد الحكيمي لا تعرف مدى نهمه وشغفه حتى انغماسه لساعات متواصلة في قراءة كتاب حتى النهاية قد ينسى معه ضيوفه في المقيل وهو معهم !!.


*تحديات في الطريق*


عندما يؤلف أحدهم كتاباً في دراسة اللغات الإنسانية الحديثة قد لا يحتاج أكثر من عدة معاجم وقواميس وبعض المراجع الخاصة ..أما عندما يغامر في دراسة اللغات واللهجات الإجتماعية الدارجة الحية والقديمة التي لا تزال تأثيراتها بين الناس فيحتاج أكثر إلى تجربة الغوص الشخصي المباشر في حياة المجتمع والشخوص والأماكن وأدق التفاصيل.

ولا يتجشم عناء ذلك الجهد الكبير ومتاعبه إلا من يعرفون شرف العلم النافع ونيل المعالي.


وكتاب( معجم في لهجة المعافر وتراثها) لمؤلفه الأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي نتاج علمي ولغوي وثقافي نفيس يقدم لغة ولهجة إقليم المعافر ليس باستعراض الألفاظ ودلالاتها ولكنه أبعد من ذلك من خلال حشد شواهد الذاكرة الثقافية والشعرية والغنائية والأمثال السائرة ومسميات الأشياء من حولنا ودلالاتها وتطبيقاتها في واقع حياة المجتمع اليومية وتأثيراتها الروحية والمعنوية في مواسم الزراعة والأمطار والحصاد والعلاقات الإنسانية كجزء من اللغة العربية الأم في الغالب وليست لهجة محلية منغلقة على نفسها وبيئتها المحدودة في أهم جغرافيا منطقة تعز.

ولا ينسى المؤلف الفذ رسم صورة عن ملامح حياة المجتمع وعاداته وتقاليده وطقوسه والإستدلال بوقائع وأحداث تاريخية وسياسية وعسكرية جعلت لهجة أهل المعافر فاعلة ومتفاعلة ومتطورة مع الزمان والمكان ولها من المشتركات اللهجوية الكثير مع لهجات أهل اليمن الأخرى في جنوب وشمال البلاد وشرقها وغربها.

يفعل ذلك المؤلف القدير الأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي في أكثر من 1600 صفحة باستنفار وإلمام معرفي موسوعي ومنهج علمي رصين.


إستغرق جمع ودراسة وتحليل وإعداد مادة الكتاب أكثر من ثلاثين عاماً إلتقى خلالها المؤلف بمئات الأشخاص والتجمعات من عوام ومثقفين وغيرهم وتنقل قبلها في قرى عديدة بإقليم المعافر وغيره للتشبع من جرس وإيقاع الألفاظ واللهجات المختلفة, علاوة على انتمائه الإجتماعي للمنطقة نفسها.


ويولي الباحث أهمية خاصة لمقارنة لهجة المعافر بلغات أهل اليمن القديمة الموجودة في النقوش والشواهد الحميرية والسبئية والوثائق التاريخية المعتبرة وحشدها لتوكيد أصالة انتمائها ولفت أنظار المجتمع إلى قداسة اللهجات المحلية في التخاطب الإنساني والتمسك بها لجهة ما تواجهه الكثير من مفرداتها خلال الأربعة العقود الأخيرة من غربة معرفية في أذهان قطاع كبير من الشبان المنقطعين عن حياة القرية والريف في المدن للدراسة والعمل, وتأثير الإختلاط الإجتماعي للهجات الأخرى على المفردات التقليدية للقرى القديمة.


إجتهد الباحث في حشد الدلائل الأدبية الشعرية والفنية والغنائية والأمثلة والوقائع لتوكيد اعتبار اللهجة المعافرية من التراث الحي لا من الماضي الغابر لما تمثله من تمازج إنساني يومي في الوجدان الجمعي للناس وعلاقتها العضوية الحميمة كوسيلة تواصل وتخاطب لا تزال حيويتها مؤثرة على الوجدان.

وكذلك كشف الباحث الأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي من خلال المنهج المقارن ما طرأ على لهجة المجتمع المعافري في اليمن من تحولات وتطور داخل بنية مفردات التخاطب نفسها أو مع غيرها من لهجات باقي مكونات المجتمع اليمني بما تمثله من وحدة لغوية عضوية تلتقي في الجذور وتعكس بتعدد الألسن واللهجات حكمة التنوع الإلهي داخل واحدية الثقافة اليمنية الأم واللغة العربية الأصل ولا تنفصم عنها( هو الذي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم(ألآية).


*مطهر الإرياني يستعين ب المؤلف*


ويذكر المؤرخ والشاعر اليمني الشهير الراحل مطهر بن علي الإرياني مؤلف المعجم اليمني في اللغة والتراث) في الطبعة الثانية من كتابه 2012 م المرجعي بكثير من العرفان استفادته من البحث الأولي الخاص بالأستاذ أحمد شرف سعيد الحكيمي قبل نشره بسنوات بقوله: فاستفدت منه في تصحيح وتوضيح عدد من المفردات التي جاءت في الطبعة الأولى, ثم التقيت به وأعدت إليه عمله مشكوراً واقترحت عليه أن يصدره في عمل قائم بذاته يندرج ضمن هذا المشروع(يقصد كتابه المعجم اليمني في اللغة والتراث).. شهادة في الوقت نفسه على جدارة المؤلف وتفوقه.


وربما دفع إطراء الأستاذ الإرياني ذاك مؤلف كتاب في لهجة المعافر وتراثها لإخراج نتاجه الفكري المتميز في أكثر من 1600 صفحة من القطع الكبير بعد أن كان لا يتجاوز 300 صفحة فقط عند اقتباسات الإرياني منه في طبعة كتابه الثانية..

وهو إنجاز نوعي ضخم وقل مثيله أيضاً في زمن الحرب الملعونة أضاف صاحبه من خلاله الكثير إلى الثقافة الوطنية, ونبه إلى أهمية تمسك مجتمع المعافر وغيره في اليمن بموروثه اللغوي الفلكلوري كجزء من الهوية الثقافية الأم.

ولا يقتصر الكتاب على توثيق لهجة المعافر والعناية بها وأكثر من ذلك حشد المؤلف مئات الحكم والأمثال والشعر والأحاديث وأسماء الأطعمة والأدوية والأماكن وشروحاتها, وخصص لذلك أكثر من 400 صفحة في الجزء الثالث من ص 141) ليظهر كتاب آخر على أهميته داخل الكتاب الأصل.

ومع احتفاء المثقفين في اليمن بولادة موسوعة لهجة المعافر وتراثها إلا أن جهات وقنوات الثقافة الحكومية الرسمية هنا وهناك تجاهلت مناسبة ثقافية تراثية لافتة متميزة كهذه بكل ما يعنيه هذا الإنجاز من محاولة تطبيع للأوضاع الثقافية زمن الحرب.

فلم يحظ المؤلف بدعم من صندوق إحياء التراث الحكومي الممول خارجياً ولا إشادة والتفاتة أدبية بسيطة في الإعلام الرسمي تذكر وزارة الإعلام والثقافة ببعض وظائفها المنسية في تكريم أصحاب الجهود الإستثنائية.

ولولا جهود الخيرين والحريصين ما رأت موسوعة(من اللهجات اليمنية- في معجم لهجة المعافر وتراثها) النور ولا أمتعنا الأستاذ أحمد شرف سعيد بفيضه الثقافي التراثي الزاخر.. أطال الله في عمره وأحسن إليه.