آخر تحديث :الأربعاء-23 أكتوبر 2024-11:17ص

الرحالةُ الغَربِيونَ إلى اليَمنِ وكيسُ النومِ

الأحد - 06 أكتوبر 2024 - الساعة 07:13 م
د. مجيب الرحمن الوصابي

بقلم: د. مجيب الرحمن الوصابي
- ارشيف الكاتب


مِنَ العَيبِ إلى يومِنا في بعض المناطق اليمنية أن ينامَ الرجلُ بجانبِ زوجته طوالَ الليل، في الثقافة الشعبية؛ فهذا مذمومٌ! ... وفعلٌ قبيحٌ ومما ترويه الذاكرة الشعبية تعليلًا أنّ النومَ بجانب المرأة يفسدُ الرجل ويمرضه جسدًا وخُلقًا، وزعموا أنّهم وضعوا قطعة لحمٍ طريةِ بجانب امرأةٍ ليلًا في ليلةٍ باردة، ليتغير لونُها وشكلها صباحًا وفسدت، لتُتخذ الحكايةُ حُجةً على صحة العُرف والتقليد

ولم يعرفِ اليمانيون غُرفًا خاصةً للنوم طيلة تاريخهم، سوى مخادع الأمراء والملوك وكبار الملّاك والتجار، وهي غرف تخصص للرجل أولًا... وفي هذه المخادع قتل سيف بن ذي يزن، وعبهلة العنسي ، وذو الشناتر غيلة

أدركتُ تقليدًا في عدنَ-بعد الاستعمار-إذ يتخلّصُ الأزواجُ من سرير غرفة النوم في الأغلب بعد مولودهم الأوّل؛ نظرًا لضيق بيوتهم المبنية على الطراز الهندي، ولأنَّ اليمانيين عمومًا مشهورون بضيقِ غرف بيوتهم حتى وإن تعددت طوابق بناياتهم العتيقة منذ فجرِ تاريخهم، وربما تكون الطوابق المتعددة سببًا في صغر الغرف

وحقيقةً لم يعرفِ اليمنيون سوى غرفة نوم سهلة وخفيفة هي أكياس طويلة واسعة بيضاء عادة، لا يَستغنون عنها في حلّهم وترحالهم، وأكياس النوم التي ابتكرها الإنسان اليمني الأوّل ليست للرحلات والتخييم والترف، بل هي وسيلة متعددة الأغراض لا يعرف قيمتها ووظائفها إلا من أدرك حقيقتها وبساطة الإنسان اليمني المغامر الأول، قبل أن يتفاخرَ الوالغون بالدّم اليمني حتى الركب اقتحامهم لغرف نوم مناوئيهم بكلّ رجولة وفتوحات إيمانية

أهلُ اليمنِ أهلُ فكرٍ وإبداع والمجلين في ابتكاراتهم، فقد اخترع اليمانيون أكياس للنوم للبالغين قبل أن تسجل براءة الاختراع رسميًا باسم (برايس جونز) Bryce Jones الويلزي عام1876 ، وتصير من المستلزمات الضرورية للرحلات والتخييم في البراري وللعسكر في مهامهم

عندما تشاهد اليمن في عيون الرحالة الأوائل تستفزُّك تلك الصورة النمطية التي وسموا اليمن بها إلا من رحم ربي، وهي صورة لا تخرج عن صورة الشرق العجيب والغريب العاري المتوحش الغبي، والنساء اللعوبات

" إنهم جثامين كثيرة جاهزة للتشييع" هكذا صرخ مغامرٌ إيطالي عندما زار حوطة لحج عام1877 وأشاد بنظافتها مقارنة بمدن المغرب القذرة طنجة وجوّها النتن كما يزعم، فلماذا كان الناس في لحج ينامون في أكياس طويلة بيضاء، والمعروف أنّ هذه الأكياس هي لأهل الجبال من اليمنيين (الجبالية)، وكان والدي جبليًا، أهداني كيسًا للنوم مع انتفاء الحاجة إليه، ويواصل الإيطالي (رينزو مانزوني) Renzo Manzoni حديثه أنهم يغلقون فتحة كيس النوم، وأنِفَت نفس الرحالة الشاب أن يدخل في كيس وفضّل امتصاص دمه من تلك الطفيليات على أن يموت اختناقًا! أما الألماني كريستن نيبور Carsten Niebuhr الذي سبق الإيطالي رينزو في زيارة اليمن قبله بأكثر من قرن في نهاية عام 1762 فهو يقدّم شهادة أكثر واقعية وقد عرف عنه الموضوعية فيما كتبه عن رحلته اليمنية.. " يندس العربي الجبلي عاريًا في كيس كبير، دون أن يقفله فوق رأسه، فتحوّل حرارة لهاثه دون إحساسه بالبرد، ويوضع الكيس مقلوبًا في النهار على سطح المنزل حتى لا تتكاثر الحشرات الطفيلية ليلًا، ولم أحاول أبدًا أن أنام في الكيس، ولكني اعتدت على تغطية وجهي خلال الليل، خاصة في الهواء الطلق تفاديًا للندى المضرّ بالصحة" هل ينام الإنسان اليمني الأول عاريًا في داخل كيس نومه، في كلّ الأيام، وكل المناطق ولماذا رفض الرحالة الغربيون أن يناموا في داخل كيس النوم؟، ونام فيها الرحالة العرب؟ لكن قبل أن نجد مقاربة للإجابة عن هذه الأسئلة في المقالة القادمة

هل جرّب أحدكم النوم في كيس نوم شبه عار، ولا أقول: عارٍ، لأن التعرّي مذموم شرعًا وعرفًا عند أهل اليمن، وهل سمعتم بالمثل الذي يقول (فلان كيس نوم) كناية عن الكسل لحاكم يمني ينام إلى العصر بعد تخزينه مسائية (أبو أسد* مجيب الرحمن الوصابي