آخر تحديث :الأحد-15 سبتمبر 2024-01:32ص


وقفات أدبية

الأحد - 28 يناير 2024 - الساعة 08:02 م

علوي سلمان
بقلم: علوي سلمان
- ارشيف الكاتب


وقفات أدبية مع قصيدة،، قلت ابتسم للشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي

قال السماء كئيبة وتجهما
قلت ابتسم يكفي التجهم في السماء
قال الصبا ولى فقلت له ابتسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما
قال التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جهنما
خانت عهودي بعدما ملكتها
قلبي فكيف أطيق أن أتبسما
قلت ابتسم واطرب فلو قارنتها
قضيت عمرك كله متألما
قال التجارة في صراع هائل
مثل المسافر كاد يقتله الظمأ
أو غادة مسلولة محتاجة
لدم وتنفث كلما لهثت دما
قلت ابتسم ما أنت جالب دائها
وشفائها فإذا ابتسمت فربما
أيكون غيرك مجرما وتبيت في وجل
كأنك أنت صرت المجرما
قال العداء حولي علت صيحاتهم
أأفرح والأعداء حولي الحمى
قلت ابتسم لم يطلبوك بذمهم
لو لم تكن منهم أجل وأعظما
قال المواسم قد بدت أعلامها
وتعرضت لي في الملابس والدمى
وعليا للأحباب فرض لازم
لكن كفى ليس نملك درهما
قلت ابتسم يكفيك انك لم تزل
حيا ولست من الأحبة معدما
قال الليالي جرعتني علقما
قلت ابتسم ولئن جرعت العلقما
فلعل غيرك ان رآك مرنما
طرح الكآبة جانبا وترنما
أتراك تغنم بالتبرم درهما
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنما
ياصاح لاخطر على شفتيك أن تتلثما والوجه أن يتحطما
فاضحك فإن الشهب تضحك
والدجى متلاطم ولذا نحب الانجما
قال البشاشة ليس تسعد كائنا
يأتي إلى الدنيا ويذهب مرغما
قلت ابتسم مادام بينك والردى شبر
فإنك بعد لن تتبسما
تنتمي هذه القصيدة إلى المدرسة الرومانسية، وهي مدرسة حافظت على الشعر في قوامه وشكله العمودي، مثلها مثل المدرسة الكلاسيكية المجددة، مع اختلاف بسيط يتمثل في ان رواد المدرسة الرومانسية نوعوا في شعرهم بين القوافي، حيث كانت بعض القصائد توجد بها أكثر من قافية واحدة، تفعيلات القصيدة كانت موزونة بشكل ملفت ودقيق، فشطر البيت الشعري المتكون من ثلاث تفعيلات نجد مايقابله في عجز البيت ثلاث تفعيلات متساوية في حركاتها ونطقها، أستخدم الشاعر قافية الألف وهي مناسبة لواقع حال القصيدة الشعرية، فالقصيدة تعتبر فلسفة حياة في منظور الشاعر، حيث تدعو للتفاول والبشاشة والابتسام، وهذا يحتاج إلى طول نفس وتأني وصبر وعدم التضايق لأتفه الأسباب، فكانت قافية الألف بطول حركتها تجسد هذا المعنى، بناء القصيدة وتسلسل الافكار كانت بشكل منظم، تصب في خدمة تحسين الفكرة وتوصيلها إلى ذهن السامع بشكل موحد ومجموع دون تبعثر، وكأنها مسكوبة في إناء واحد من بداية الابيات الشعرية وحتى نهايتها،
يسجل الشاعر حوار مع ذاته يطرح كلامه بصيغة الماضي ويجيب بعد ذلك مباشرة، فيظهر للقارئ أو المستمع أن الشاعر يدير سجالا وحوار مع آخر ويحاول بكل مايملك من وسيلة اقناع الآخر بفلسفته القائمة على التفاؤل والبشاشة وعدم التشاؤم، مهما كانت الظروف،بدأ الشاعر في البيت الأول باستخدام فعل ماضي ينتمي إلى فصيلة ( المسند) والذي يحمل أغراض بلاغية كثيرة منها التخصيص والتشويق وتقديم المسرة أو الإساءة والاقناع وغير ذلك من أغراض بلاغية، وفي بداية هذه القصيدة ومجمل تفاصيلها تحمل غرض الاقناع والتشويق، بمعنى اقناع المستمع بان السخط والتشاؤم والاحباط لاتأتي بخير ولاتولد الا الفشل والانتكاسات المعنوية والمادية لاصحابها المتشائمون والمحبطون، وان الاستبشار والابتسام للحياة هو النجاح بعينه والتخلص من بذور القلق والكآبة اللذان يعبثان بحياة الإنسان ويطرحنه أرضا تنشنه الآوهام والاحزان والمثبطات، قال السماء كئيبة وتجهما
قلت ابتسم يكفي التجهم في السماء، من المعروف والبديهي ان السماء مخلوق آخر لاتحمل صفات الإنسان مثل الكآبة والضيق والتجهم، لكن الشاعر هنا استخدم الكآبة والتجهم اللي هي من صفات الإنسان ونسبها للسماء فقال السماء كئيبة وتجهما والحقيقة السماء لاتكتئب ولاتتجهم يسمى هذا في علم البيان استعارات ونوعها هنا استعارة مكنية حذف الشاعر الإنسان وجاء بصفة من صفاته أو معنى من معانيه وهي الکآبة والتجهم ونسبها للسماء وهذه هي الاستعارة المكنية، لكن الشاعر يرد ويعارض التجهم والکآبة بشدة، فهو يمثل الصوت الرافض للآكتئاب والعبوس والاحباط، ويقول اذا كانت السماء متجهمة وكئيبة فاتركها وشأنها وخل الحزن والآكتئاب لها، أما أنت ياإنسان فلابد لك أن تبتسم للحياة كي تبتسم لك حتى ولو كنت في مأزق وضيق وتبرم وقلق فلابد لك أن تبتسم، وفي البيت الثاني يقول قال الصبا ولى فقلت له ابتسم
لن يرجع الأسف الصبا المتصرما، يقصد الشاعر ان الإنسان من الضروري أن يكون مبتسم منشرح الصدر وفي كل الأحوال، وسواء كان في سن العطاء والشباب وأيام الصبا والمرح والفرح وقبل ولوج الإنسان متاعب الحياة ومشقاتها أو كان في سن الكهولة والشيوبة، فلابد له ان يبتسم وينشرح، لانه في الحقيقة وان تأسف على أيام صباه وشبابه فإن هذا التأسف لايستطيع يفعل له شيء ولاهو براد له أيام زمان حينما كان صبي أو شاب وكان سعيد فيها أو متبسم، في البيت الثالث والرابع والخامس يقول الشاعر، قال التي كانت سمائي في الهوى
صارت لنفسي في الغرام جهنما
خانت عهودي بعدما ملكتها قلبي
فكيف أطيق أن أتبسما
قلت ابتسم واطرب فلو قارنتها
قضيت عمرك كله متألما، يقصد الشاعر ويفترض انه حتى لو تعاكست الحياة في وجه الإنسان وأصبح الهوى والحب الذي كان يحمله في قلبه لكل من حوله يعيش ويدرج تحت سماء الدنيا قد تحول وأصبح الغرام في نفسه نار وجهنم بدلا من جنة الحب ودفء المشاعر، واحاسيس قلبه الفياضة والتي كان قد اخذ منها عهودا ان تستمر بهذه الحالة من الرقة والحلوة والعاطفة لكنها خانت عهوده وتبددت آماله فتحولت إلى عذاب ونار ، حتى ولو كانت الحياة قد قلبت وتقلبت إلى هذه الدرجة فهو يقول ويؤكد ابتسم واطرب فلو انك أخذت الأمور اللي أنت آخذها حاليا بهذه الطريقة فستقضي عمرك وحياتك وأنت في هذا الألم والتألم، في البيت السادس والسابع والثامن والتاسع يقول الشاعر ان الإنسان في صراع كبير ودائم فتارة تشغله تجارته وسعيه فينسى ان يعطي نفسه حقها من الترويح والتنفيس وذلك حالته كالمسافر الذي يقطع المسافات الطويلة بحثا عن رزق أو لقضاء حاجته فيتعرض خلالها لظمأ شديد، أو إنسان يغدو ويروح ويفتعل خلال غدوه ومراحه المشاكل فتتعقد المسألة وتصل إلى إراقة الدماء وسبي النساء وفي هذه الحالة يصبح مهموم مغموم وكأنما جثمت أحزان الحياة وألآمها وقلقها على صدره ،فترجع أنت تتحمل من الهم والحزن مثلما يتحمل هو وتقتلك الفواجع والألآم، فيعارض الشاعر هذا الموقف بشدة ويقول ابتسم ماهو أنت الذي جلبت البلاوي والداء والشفاء فليس لك من الأمر شيء، أترضى أيها الإنسان تعيش في خوف ووجل وغير مرتاح وأنت لم تقترف شيء بينما هناك من يرتكب الجرائم وربما يعيش في سعادة أفضل منك، في هذه الحالة ستصبح أنت المجرم نتيجة خوفك وتخوفك، بينما المجرم الحقيقي مبتسم يمارس حياته بشكل طبيعي ودونما خوف أو قلق،
في البيت العاشر والحادي عشر يقول الشاعر على لسان من يحاوره، قال العداء حولي علت صيحاتهم
أأفرح والأعداء حولي الحمى
قلت ابتسم لم يطلبوك بذمهم
لو لم تكن منهم أجل وأعظما، في البيتين هذه يبين الشاعر ان مهما كانت عداوة الإنسان لاخيه الإنسان وحصول المخاصمة قد تسببت في قلقه وهمه ونغصت حياته، الا ان الشاعر يمثل الصوت الرافض دائما للقلق والكآبة فيقول ابتسم مهما كانت مشاغلك ومشاكلك وعداوتك، فأنت أعظم وأجل من تصبح فريسة سهلة لأوهام النزاعات والعداوات،
في البيت الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر يوضح الشاعر انها تأتي مناسبات أو مواسم فيحتاج الإنسان فيها لشراء مقنياته وحاجاته المنزلية كالملابس ولعب الأطفال وغير ذلك من سلع وخدمات تكون لزاما عليه جلبها لأسرته وأحبابه وربما يأتي هذا الموسم وهو في عوز وفقر لايمتلك الدراهم لشراء كل ذلك، فيعتريه الهم والضيق، لكن الشاعر يقول ابتسم في هذا الظرف حتى ولو كان صعب، يكفيك أنك لاتزال تعيش وتحيا في صحة وعافية وماحصل من نقص في المتطلبات والمشتريات سيأتي يوم وتعوض كل هذا النقص، فاحبابك يعرفونك جيدا انك لاتعدمهم ولاتحرمهم ولولا ضيق مافي اليد والا كنت أغدقت عليهم العطايا والخيرات، في البيت الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر يؤكد الشاعر على الابتسام والبشاشة حتى لو جرعتك الايام المر والعلقم، فربما غيرك رآك مرتاح ومترنم، فيحاول ان يعمل مثلك يترك أحزانه وكآبته جانبا، فينبسط ويبتسم ويترنم مثلك ومثل ترنمك تماما، لانه مافيه فائدة حتى لو تبرمنا وتجهمنا وسخطنا من الحياة ومجرياتها ووقائعها، لايمكن ان نربح الدراهم والمال بفعل سخطنا وتبرمنا، وان تبسمنا هو الافضل والصحيح ولايمكن أن نخسر شيء من مال أو دراهم جراء تبسمنا وانشراحنا
في البيت التاسع عشر والعشرون والحادي والعشرون، يقول الشاعر على الإنسان ان يضحك فإن الشهب بلمعانها في الليل تضحك وهذه تعتبر صورة بلاغية في هذا البيت الشعري نوعها استعارة مكنية لان الضحك من صفات الإنسان بينما نسب الضحك هنا للشهب أي حذف المشبه به وهو الإنسان وترك شيء من صفاته وهو الضحك، وشبه أيضا الدجى أي الليل بانه متلاطم في غدره وظلامه كما تتلاطم أمواج البحر، وهذا مايكرهه الشاعر فهو يحب السطوع واللمعان مثل الأنجم ويمقت الظلام وسدوله، ويؤكد الشاعر في البيت الأخير على الابتسام والبشاشة حتى لو لم يكن بينه وبين الموت الا شبر واحد، يجب عليه ان يبتسم خلال هذا الوقت المتبقي له في الحياة، فربما يموت ولايستطيع بعد ذلك أن يبتسم.

# علوي سلمان