واجه العرب السنة أوضاعا عصيبة منذ الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، حيث مكّن اختلال التوازنات إيران من بسط نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن بطرق صدمت الدول العربية السنية المعتدلة في المنطقة وأفزعتها. وكان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني من أصدر صيحة فزع حين حذر سنة 2005 من ظهور “هلال شيعي”. لكن العرب لم يتمكنوا من مواجهة إيران.
ونظرا لافتقار العرب المعتدلين إلى المعرفة أو القدرة الكافية على مواجهة الجماعات ذات الدوافع الأيديولوجية التي يدعمها الحرس الثوري الإيراني، عمدوا بشكل مبالغ فيه إلى شراء النفوذ بالمال.
وعوّلوا على السياسيين العلمانيين الضعفاء والجماعات المشكوك في امتلاكها قاعدة شعبية. كما كانوا يعتمدون على القيادة والدعم الأميركيين، في حين كانت الولايات المتحدة نفسها تعقد شراكة فعلية مع نفس الجماعات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، لمواجهة داعش في العراق، ومع حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، وهي مجموعة لا تجمعها علاقات أيديولوجية أو عاطفية مع العرب.
وكانت سنوات الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما صعبة أكثر لأن سياسته في الشرق الأوسط خلال الفترة الحاسمة (2008 – 2016) كانت موجهة نحو التسوية مع إيران.
ومكّنت خطة العمل الشاملة المشتركة وقفا مؤقتا للبرنامج النووي مقابل الاعتراف لإيران بحرية التصرف. لكن السنة في العراق وسوريا واليمن ولبنان عانوا من تبعات هذا الوضع. ويقول مالك العبدة، المحلل والمستشار في شؤون الشرق الأوسط والمتخصص في الشأن السوري، في تقرير نشره موقع “سيريا إن ترانزيشن” (سوريا في طور الانتقال) إن الافتقار إلى قوة إقليمية سنية قادرة وراغبة في الوقوف في وجه إيران لم يكن المشكلة الوحيدة.
وتفتقر الدول الأربع المذكورة إلى أي مجموعة سياسية أو عسكرية سنية تحظى بالقدرة التنظيمية على الانتصار في ساحة المعركة والقدرة السياسية على جذب الغرب. وكان داعش والقاعدة جماعتين سنيتين متشددتين إرهابيتين محظورتين عالميا.
وظهرت العديد من الجماعات المسلحة السنية غير الإرهابية في العراق وسوريا خلال العشرين سنة الماضية. لكنها كانت منقسمة وغير فعالة إلى حد كبير في المواجهات الاستنزافية الطويلة.
وكان لديها فهم ضعيف للجغرافيا السياسية والدبلوماسية. كما كانت تفتقر إلى القيادة الكاريزماتية التي تحترمها الطائفة السنية الأوسع. وباختصار لم يكن لدى السنة أي رد يواجه الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصرالله.
وكان السنة في الحضيض عشية 7 أكتوبر 2023. ثم شنت إسرائيل حربها ضد “محور المقاومة” وتغير كل شيء. وتقدم اثنان من الجهات الفاعلة لاغتنام الفرصة. وتحرّكت تركيا، باعتبارها القوة الإقليمية “السنية” (وإن كانت علمانية)، وهيئة تحرير الشام باعتبارها الجماعة المسلحة السنية المحلية. وأثبت المزيج قوته.
ونفذت هيئة تحرير الشام، تحت حماية الجيش التركي وعين المخابرات التركية الساهرة، سياسة هدّأت بها كل المخاوف المعتادة بشأن الانقسام السني والفوضى والتطرف. وصُمم نموذج بناء على الاحتراف العسكري والكفاءة الإدارية والانضباط السياسي.
وحولت الحملة الخاطفة في 27 نوفمبر التي أطاحت بالأسد سلطة هيئة تحرير الشام إلى اسم مألوف. لكن مشروع هيئة تحرير الشام كان قيد الإعداد لسنوات. واحتضنته تركيا، وتقدّم بتشجيع من الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى. وأشرف على تنفيذه شباب إسلاميون سوريون أذكياء. وجسّد هذا تحولا مذهلا للسنة.
وسترتبط نهاية الحكم السني في العراق إلى الأبد بإسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، ونهاية الحكم العلوي في سوريا بإسقاط تماثيل الأسد وجرّها في الشوارع في كل مدينة. لكن الفرق هو أن انتزاع الحكم حدث في سوريا على أيدي السوريين، وليس بقيادة جيش غاز. ولا يعني هذا أن القوى الأجنبية لم تكن متورطة. لكن المهمة أنجزت بطريقة أكثر ذكاء وبكلفة أقل من إرسال 150 ألف جندي.
وتنقل رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركية إبراهيم قالين مع زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع حول دمشق في 13 ديسمبر الجاري. وصلى في المسجد الأموي، ثم تناول القهوة مع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في جبل قاسيون المطل على المدينة. وكان غياب الميليشيات الإيرانية التي كانت تسيطر على هذه المرتفعات واضحا. وليست الرسالة خفية، بل تبرز كون تركيا قوة مستعدة وقادرة على التصرف بشكل حاسم.
وسيتطلب استقرار سوريا انتقالها إلى نوع من الديمقراطيات التمثيلية والكثير من الاستثمارات السياسية والمالية. كما سيعتمد جزئيا على استعداد الشرع للابتعاد عن الإسلام السياسي وتقاسم السلطة.
وتولت أنقرة وشريكتها قطر مسؤولية توجيه العملية وضمان النتائج المرجوة لأصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين. ويشمل هؤلاء الأوروبيين، الذين يجنون بالفعل ثمار تغيير النظام في دمشق من منظور الهجرة. ويبلغ عدد عودة اللاجئين الطوعيين من تركيا الآن 20 ألف لاجئ يوميا.
وتشمل سوريا الساحات المركزية الأربع على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط. ويمنح الاستيلاء عليها انتصارا جيوسياسيا لتركيا. وتواصل إيران إبراز نفوذ كبير (وإن كان ضعيفا) في العراق. لكن وجود قوات الحشد الشعبي يعني أن سوريا تواجه خطر زعزعة الاستقرار على حدودها الشرقية.
وتدير النخب السنية والشيعية المدعومة من إيران العراق الغني بالنفط. وتعاني الدولة ضعف الخدمات وسوء الحكم ومستويات الفساد الهائلة. وهي جاهزة لتغيير النظام “الذكي”.
وسيعود السنة جزئيا إلى هذا البلد أيضا بالشراكة مع سياسيين شيعة علمانيين وقوميين لم تشوههم مدة عشرين عاما من سوء الحكم. وحددت القوى التي تشكل الشرق الأوسط اليوم عوامل الفوضى: حزب العمال الكردستاني، و”محور المقاومة”، والإسلام السياسي.
وسيمنح النظام الناشئ فرصة القيادة للسنة. لكنهم لن ينجحوا إلا إذا أصبحوا لاعبين شاملين ومسؤولين حقا وعلى استعداد لتبني القانون الدولي والأنظمة السياسية متعددة الأحزاب. ويمكن أن يحظى الجهاديون والبعثيون السابقون بفرصة ثانية إذا تعلموا من دروس العشرين سنة الماضية.