لو عدنا للوراء قليلاً، وتحديداً في منتصف العام 2007م، وقلبنا صفحات الأعوام المتعاقبة وراجعنا ذاكرتنا التي أكل عليها الدهر وشرب، لوجدنا أن هناك شخصيات خطّت أسماءها بأحرف من نور على صفحات التاريخ والأحداث التي شهدتها تلك الحُقبة.
أشخاص تحلّوا بالصدق والأمانة والنزاهة، ولم يجد الخبث السياسي وطمع الأنفس سبيلاً إلى دواخلهم. حملوا قضية الشعب الجنوبي آنذاك بصدق وضمير وأمانة، بعيداً عن أي مطامع سياسية أو مالية، رغم ما لاقوه من سجن وتهجير وتعذيب. ولكن كان للمبدأ كلمة الفصل، ولا صوت يعلو فوق صوته.
مضت الأيام والسنون، ونحن في كرٍّ وفرٍّ، وفي كل سجال سياسي أو حدث نخسر عزيزاً على قلوبنا. ولكن لأن الهدف أسمى، لم يكن ذلك إلا ثمناً لذلك المطلب السامي والنبيل الذي دفع الكثيرون أرواحهم من أجله.
وبعد أن تداخلت سياسة الأوطان وحلّ الخراب العربي في مطلع العام 2011م، تبدلت أوضاع اليمن وتحولت إلى نزاعات عسكرية لم تنعم اليمن بعدها براحة أو أمان. واحتل المشهد كيان سياسي منبوذ وممقوت أتى من الكهوف والجحور، وأحدث ما لم تحدثه الحروب في البلاد منذ ستينيات القرن الماضي.
هنا فقط قال الرجال والأبطال والأفذاذ كلمتهم. حينما شنّ الحوثي حربه الضروس على الجنوب، تصدّروا المشهد وقاتلوا ببسالة وشجاعة ورجولة. ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من طالهم التهميش والنسيان والحرمان بعد أن وضعت الحرب أوزارها. بينما تصدّر أطفال الأمس المكانة، وتربعوا على كراسي السيادة والفخامة، رغم أن معظمهم ليس لهم في عير الحرب أو نفيرها شيء.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، من القيادات التي شهدت الساحات ببسالتها وقوتها ورجولتها الدكتور اللواء ناصر الفضلي، الذي قاتل إلى جانب أقرانه قتال الرجال والأبطال. وبعد أن توقفت رحى الحرب، طاله التهميش والنسيان، والجحود والنكران. وهذا ما حصل للكثيرين، مثل الشهيد محمد الزربة، والشهيد اللواء علي ناصر هادي، وعدد كبير لا تحضرني أسماؤهم.
إلا أن الدكتور اللواء ناصر الفضلي كان أكثر من طاله هذا الضيم والتهميش والحرمان، مع أنه رجل ذو حنكة وعقل ودهاء وذكاء، وكاريزما سياسية قلّ من يتمتع بها. واللواء الفضلي من القيادات التي لم تسأل أحداً إلحافاً، ولم تتسول من أحد معونة أو مكانة، لأنه يعرف قدره وقيمته ومكانته. لكنه للأسف، في زمن رتيب، يُهمّش فيه الرجال ويرتقي فيه الهلاميون ممن أنتجتهم الحرب الأخيرة.
إذا كان مثل هذه الهامة الوطنية الفذّة وأمثالها قد طالتهم سياسة التهميش والتجاهل وعدم الاستفادة من خبراتهم، فلا داعي لأن ننشد وطناً ودولة ومكانة. ولا داعي لأن نبيع الوهم ونصرف صكوك العمالة والوطنية والفتوى المعلّبة ضد من يخالف نهج الهلاميين وادعاءاتهم الباطلة.
الفضلي نموذج لكثير ممن طالتهم سياسة "خليك في البيت"، وحُرموا من أبسط حقوقهم والامتيازات التي يتمتع بها أطفال القادة. وغير الفضلي كُثر. فمتى سيدرك العقلاء -إن كان هناك عقلاء- قيمة هؤلاء، ويضعونهم في مواقعهم الحقيقية التي سترتقي بالوطن والمواطن؟