آخر تحديث :الثلاثاء-17 سبتمبر 2024-03:45م


بين الشعارات والواقع.. فجوة بين مبادئ الحوكمة والتطبيق العملي في الحكومة اليمنية

الثلاثاء - 10 سبتمبر 2024 - الساعة 04:16 م

وحيد الفودعي
بقلم: وحيد الفودعي
- ارشيف الكاتب


في الوقت الذي يتحدث فيه دولة رئيس الوزراء الدكتور أحمد بن مبارك عن مبادئ الشفافية والمساءلة وبرامج الحوكمة الشاملة التي تهدف إلى تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، نجد أن الواقع الحكومي لا يزال يعاني من مشكلات جوهرية تعيق تنفيذ هذه المبادئ على الأرض. التناقض الواضح بين الخطاب الرسمي والممارسات الفعلية يثير تساؤلات حول مدى جدية الحكومة في التزامها بمبادئ الحكم الرشيد، خصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تمر بها البلاد.

أحد أبرز هذه الإشكاليات هو تعثر الحكومة في تقديم برنامجها لنيل الثقة من مجلس النواب، وهو إجراء دستوري أساسي لضمان الرقابة الشعبية على أداء الحكومة. هذا التعثر يعكس حالة من الجمود في تنفيذ الإجراءات الدستورية والقانونية التي تمثل أحد أعمدة الحوكمة الرشيدة. كما أن غياب الموازنة العامة للدولة وعدم إعدادها وفق الأطر القانونية المعمول بها، وعدم تفعيل دور الاجهزة الرقابية كالجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد، والازدواج الوظيفي لمسؤلين في رأس السلطة التنفيذية، يزيد من حجم هذه الفجوة، ويؤدي إلى حالة من الفوضى في الإدارة المالية للدولة، حيث تصبح الأمور تُدار بلا رقابة حقيقية، مما يفتح الباب أمام مزيد من الفساد وسوء الإدارة.

غياب الموازنة العامة للدولة: عقبة أساسية أمام الشفافية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد

يعد إعداد وإقرار الموازنة العامة للدولة أحد أهم الركائز التي يعتمد عليها أي نظام حوكمة شاملة وشفافة. فهي تمثل خريطة مالية تعكس سياسات الحكومة، وتحدد أولوياتها في الإنفاق والإيرادات. إن غياب الموازنة العامة للدولة لا يعكس فقط فوضى مالية في الإدارة الحكومية، بل يُعتبر أيضًا مؤشرًا خطيرًا على غياب الشفافية والمساءلة، مما يؤدي إلى تآكل الثقة بين الحكومة والشعب ويضعف قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية وإدارة مواردها بشكل فعال.

من الناحية الاقتصادية، تعد الموازنة العامة أداة تخطيطية تسمح للدولة بتوجيه الموارد المحدودة نحو القطاعات الأكثر حاجة، كالتعليم والصحة والبنية التحتية. وبدون موازنة معتمدة، تكون الدولة عاجزة عن وضع خطط واضحة للتنمية أو توجيه الموارد بشكل فعال، مما يؤدي إلى تدهور في الخدمات العامة وتعطيل البرامج التنموية. كما يصبح الإنفاق الحكومي غير منضبط، حيث تدار الأمور بشكل ارتجالي ودون رؤية واضحة أو محاسبة على أوجه الصرف، مما يفتح الباب أمام الفساد وسوء الإدارة.

ومن الناحية الدستورية والقانونية، يعتبر إعداد الموازنة العامة وإقرارها من قبل السلطة التشريعية أداة مهمة لتحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فمن خلال الموازنة، تتمكن السلطة التشريعية من مراقبة الحكومة ومساءلتها عن كيفية إدارة الموارد العامة. وغياب الموازنة يعني أن الحكومة تتصرف دون رقابة فعلية، مما يقوض مبدأ الفصل بين السلطات ويجعل العملية الديمقراطية مجرد إجراء شكلي. إذ أن المجلس النيابي، الذي يمثل صوت الشعب، يفقد دوره في ممارسة الرقابة على الأداء المالي للحكومة.

النتيجة المباشرة لهذا الغياب هو تعزيز الفجوة بين الشعب والحكومة، حيث يشعر المواطنون بعدم وضوح السياسات الحكومية المالية وعدم قدرتها على تقديم خدمات تلبي احتياجاتهم. وهذا يؤدي إلى حالة من الاستياء العام ويزيد من حالة عدم الثقة في مؤسسات الدولة، مما قد يفاقم الوضع السياسي والاقتصادي ويهدد استقرار البلاد.

على صعيد الشفافية، فإن غياب الموازنة يجعل من الصعب على أي جهة رقابية أو عامة مراقبة أوجه الإنفاق والإيرادات، حيث تصبح القرارات المالية داخل الحكومة غير مرئية للرأي العام. وفي مثل هذه الظروف، تنتعش بيئة الفساد وسوء الإدارة، حيث لا يتم التدقيق في أوجه الصرف، ولا تتم المحاسبة على أي مخالفات أو تجاوزات. وبالتالي، يصبح الحديث عن الشفافية والحوكمة الشاملة في ظل غياب الموازنة مجرد شعارات لا تجد تطبيقًا عمليًا.

إن هذا الواقع يعكس تناقضًا واضحًا بين ما يُعلنه ويصرح به دولة رئيس الوزراء وما يُمارس فعليًا. فالحديث عن الشفافية لا يمكن أن يكون ذا مصداقية في ظل غياب الموازنة العامة التي تُعد الأداة الأساسية لتحقيق الرقابة والمساءلة. إن هذا التناقض يضع الحكومة أمام تحديات كبيرة في استعادة الثقة العامة، حيث يصبح من الصعب إقناع المواطنين بجدية الجهود المبذولة لمكافحة الفساد وتحقيق الحوكمة الرشيدة إذا كانت الأسس المالية والإدارية للدولة تُدار بعيدًا عن أعين الرقابة والتدقيق.

عدم تفعيل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد: أثره على الشفافية والحكم الرشيد ومكافحة الفساد

تُعد الأجهزة الرقابية مثل الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد من العناصر الحيوية في أي نظام حوكمة يهدف إلى تحقيق الشفافية والمساءلة. هذه المؤسسات مسؤولة عن مراقبة أداء الحكومة ومؤسسات الدولة، وضمان استخدام الموارد العامة بكفاءة وفعالية. إن عدم تفعيل أو إعادة هيكلة هذه الأجهزة بشكل فعال لا يعيق فقط تنفيذ الحوكمة الرشيدة، بل يهدد أيضاً استقرار النظام الإداري بأسره.

الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة يلعب دوراً أساسياً في تدقيق الحسابات المالية للدولة، والتحقق من استخدام الموارد العامة وفقًا للقوانين والأنظمة. فهو يضمن أن تكون الأموال العامة مُدارة بشكل صحيح، ويكتشف أي مخالفات أو فساد في التعاملات المالية. عدم تفعيل هذا الجهاز يؤدي إلى غياب الرقابة الفعالة، مما يمكن أن يتسبب في تزايد حالات الفساد وسوء الإدارة المالية.

أما هيئة مكافحة الفساد، فهي المسؤولة عن التحقيق في قضايا الفساد وتقديم مرتكبيها إلى العدالة. تساهم الهيئة في تعزيز نزاهة النظام الإداري من خلال التصدي للتجاوزات والفساد، وضمان تطبيق القانون على الجميع دون استثناء. إضعاف أو عدم إعادة هيكلة هذه الهيئة يعني السماح للفساد بالانتشار، مما يقوض جهود الحكومة في تحقيق الشفافية والمساءلة.

إن غياب المحاسبة في ظل عدم تفعيل الأجهزة الرقابية يشكل تحديًا كبيرًا، حيث يفقد النظام آلية حيوية للتدقيق والمراقبة. بدون الرقابة والتدقيق المستمر، يصبح من الصعب تعقب أوجه الإنفاق أو تقييم فعالية البرامج الحكومية. وهذا يخلق بيئة غير شفافة حيث يصعب تحديد مدى فاعلية القرارات الحكومية ومحاسبة المسؤولين عن أي تجاوزات.

يؤدي غياب تفعيل هذه الأجهزة إلى تآكل الثقة العامة في الحكومة. عندما يشعر المواطنون بعدم وجود شفافية في إدارة الأموال العامة وغياب الرقابة، فإنهم يفقدون الثقة في مؤسسات الدولة. هذا التآكل في الثقة يفاقم الاستياء الشعبي، ويؤثر على استقرار النظام السياسي والاجتماعي، حيث أن الثقة العامة ضرورية لضمان تعاون المواطنين مع السياسات الحكومية وتحقيق التنمية المستدامة.

في غياب أجهزة رقابية فعالة، تصبح الحكومة عرضة لممارسات الفساد وسوء الإدارة. بدون وجود هيئة قادرة على الكشف عن المخالفات واتخاذ الإجراءات المناسبة، يتفشى الفساد ويعيق التنمية، مما يحرف الموارد عن مسارها الصحيح.

إعادة هيكلة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد هي خطوة ضرورية لتحسين الأداء الرقابي. هذه الهيكلة يجب أن تركز على تعزيز كفاءة الجهازين وتزويدهما بالموارد اللازمة وتطوير قدرات الموظفين. كما يجب ضمان استقلالية هذه الأجهزة عن التأثيرات السياسية والإدارية لضمان نزاهتها وفعاليتها.

استخدام التكنولوجيا في عمليات الرقابة والتدقيق يمكن أن يعزز من قدرات الأجهزة الرقابية. اعتماد أنظمة المعلومات وتحليل البيانات الكبيرة يسهل الكشف المبكر عن المخالفات ويتيح تقديم تقارير دقيقة وسريعة، مما يعزز فعالية الجهاز المركزي وهيئة مكافحة الفساد.

إن غياب أي خطوات فعلية نحو تفعيل وإعادة هيكلة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهيئة مكافحة الفساد، يزيد من حجم التناقض في تصريحات دولة رئيس مجلس الوزراء، فهذان الجهازان يمثلان حجر الأساس في ضمان الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد على كافة المستويات، لم يتم تفعيل دورهما أو تحديث هيكلتهما، على الرغم من أن إصلاحهما ضرورة ملحة لفرض الانضباط المالي والإداري وتعزيز مبدأ المساءلة. وبالتالي، نجد أن التصريحات المتكررة حول الالتزام بالحوكمة الشاملة تظل مجرد شعارات مفرغة من مضمونها الحقيقي، ما لم يتم ترجمتها إلى خطوات ملموسة تعيد لهذه المؤسسات دورها الحيوي في إدارة الدولة وتنظيم شؤونها. مما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى الالتزام بتلك المبادئ التي يتم الترويج لها في الخطابات الرسمية. ومن هنا، يظهر التناقض الواضح بين التصريحات المثالية والواقع الذي يتطلب تحركات جادة وحاسمة لتصحيح مسار الحكومة وضمان احترام الأسس الدستورية والقانونية التي تضمن استدامة الحكم الرشيد وتفعيل مبدأ المساءلة.


الازدواج الوظيفي وتضارب المصالح: دليل واضح على تهاون الحكومة

في الوقت الذي يتحدث فيه دولة رئيس الوزراء الدكتور أحمد بن مبارك عن مبادئ الشفافية والمساءلة وأهمية برامج الحوكمة الشاملة في مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، نجد أن مدير مكتبه، الأستاذ أنيس باحارثة، يجمع بين وظيفتين، إحداهما إدارة مكتبه والأخرى كرئيس مصلحة الأراضي. هذا الازدواج الوظيفي لا يثير فقط تساؤلات حول التزام الحكومة بتلك المبادئ التي تنادي بها، بل يفتح الباب أمام شكوك عميقة بشأن نزاهة النظام الإداري بأكمله.

إن التعارض الصارخ بين الوظائف يحمل إشارات واضحة إلى قصور في تطبيق الشفافية ومكافحة الفساد على أرض الواقع، مما يجعل الخطاب الحكومي مجرد شعارات جوفاء لا تتماشى مع الواقع الذي يعاني من تضارب المصالح وغموض في إدارة المسؤوليات. فإدارة الأراضي قضية حساسة تتطلب قيادة مستقلة وخالية من أي تأثيرات جانبية أو تضارب مصالح، وهذا الازدواج الوظيفي يعكس تهاوناً في معالجة الملفات الحيوية التي تهم الدولة والمجتمع على حد سواء.

إذا كانت الحكومة حقاً تعتزم بناء ثقة حقيقية مع الشعب وتحقيق الإصلاحات التي تتحدث عنها، فإنه من الضروري الكشف عن جميع ملابسات هذا الموضوع، وتقديم تفسيرات شافية للرأي العام. فالمصداقية والشفافية لا تتحققان بالخطابات الرنانة، بل بالأفعال التي تعكس الالتزام الحقيقي بالمبادئ والقيم التي تروج لها القيادة.

إن تحقيق الشفافية يتطلب تناغمًا بين الأقوال والأفعال، وهذا التضارب قد يلقي بظلال من الشك حول مصداقية الجهود الحكومية في هذا السياق.

ختاما، تعزيز الشفافية والحوكمة والمساءلة ومكافحة الفساد في الحكومة اليمنية يتطلب اتخاذ خطوات عملية تتجاوز التصريحات والخطابات الرسمية. إذا كانت الحكومة تعتزم فعلاً بناء ثقة حقيقية مع الشعب، فعليها أن تبدأ بتفعيل الأجهزة الرقابية، إعداد موازنة عامة شفافة، ومعالجة تضارب المصالح. المصداقية تأتي من الأفعال، لا الأقوال، وهذا ما يجب أن تفهمه القيادة الحكومية إذا كانت تسعى إلى ترسيخ قيم الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.