آخر تحديث :الأربعاء-16 أكتوبر 2024-11:42ص

خراب الدول والبحث عن ملاذات آمنة

الخميس - 25 يوليه 2024 - الساعة 12:21 م
د. قاسم المحبشي

بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


( الدول تستر جلال مواطنيها وتحفظ كرامتهم من الضياع والتشرد والهوان)ق.م.

وظيفة الدولة الحقيقية تشبه وظيفة الأم الحانية بوصفها الأرض والوطن والأمن والأمان والغذاء والاشباح والحماية والحب والحنان والرعاية والاهتمام بكل مواطنيها بدون تمييز والفرق بين الأم والدولة يكمن في كون الأولى مفطورة على الأمومة ولها قلب وعيون والثاني مؤسسة مدنية جامعة بحكم الدستور والقانون الذي ليس له قلب أو عيون وهذا ما يؤمن المساواة والعدالة بين مواطنيها. فأن تكون مواطنا في دولة حقيقية فهذا يعني حصولك على جميع الحقوق الآدمية مقابل القيام بواجباتك الوطنية منذ أن تولد حتى تموت؛ حضانة وتربية وتغذية وصحة وتعليم ورياضة وعمل وسكن ومعيشة كريمة وحماية قانونية ومعاش تقاعدي وأشياء كثيرة أخرى لا يعلمها الا الذين خبروا العيش في دول مدنية صحيحة. فما هي وظيفة الدول في العالم العربي بالنسبة لمواطنيها؟ أما من ليس لديهم دول فكل ما يحلمون به هو وجدوها كيما اتفق. فكم هو قاسي وضع من فقدوا أمهاتهم ودولهم في عالم اليوم. يتجرعون الهوان في مواطن التشرد والنزوح والمنافي والمطارات ومنافذ العبور أشبه بحشرات النمل التي تهيم على وجوهها في الصحراء على غير هدى بعد خراب بيوتها.
تداعت هذه الفكرة الرومانسية إلى ذهني وأنا استمع لحكايات الشباب القادمين من كل جهات اليمن خاصة ومن معظم الدول العربية عامة وذلك للبحث عن ملاذات آمنة ومستقرة يلجؤون اليها بعد إن ضاقت بهم أوطانهم ؛ حتى وإن كانت تلك الملاذات في القطب المتجمد الشمالي. شباب بعمر الزهور ضاقت بهم بلادهم ودفعوا دم قلبوهم ليتمكنوا من الخروج والهروب منها بحثا عن مواطن جديد جديرة بالعيش الكريم؛ وجدتهم هنا في أوروبا ؛ من العراق وفلسطين ومن اليمن ومن سوريا ومن السودان ومن ليبيا ومن المغرب ومن الجزائر ومن الصومال وكردستان وغيرها. بعضهم قضي نحبه في البحار وبعضهم قضي نحبه في الأدغال وبعضهم تقطعت بهم السبل في صحراء افريقيا بين تشاد وليبيا والحزائر وبعضهم تم نهبهم وقتلهم في غابات البرازيل وبعضهم ذاق الويلات في غابات بلاروسيا وبولندا وعاش أسابيع في اللعب مع الأهوال والمخاطر حتى الموت فقدر الله ولطف لينفذ بجلده كما يروي هذا الشباب اليمني العدني، علي طه الذي يروي حكايته ل يمن بودكاست للإعلامي النبيل،أسامة عادل؛ حكاية مثيرة ومؤثرة عاشها طه ورفاق دربه في المنطقة الحدودية بين بلاروسيا وبولندا. وقد سمعت حكايات تشابهها من بعض الشباب الذين قابلتهم في هولندا. بعض ظل ستة أشهر في حدود المغرب مع إسبانيا وكان يقطع البحر سباحة لأكثر من عشرين مرة حتى تمكن اخيرا وبعضهم حكى لي أنه ركب في مكينة سيارة نقل كبيرة بين الكفرات الأمامية لقطع نقطة التفتيش بين المغرب وإسبانيا بمبلغ الفين دولار وبعضهم غرق في ترع الغابات السبخة وهو يمشي في الظلام اليالي كما اخبرني أحد الناجيين، وبعضهم عاد من حدود بولندا وبعضهم لازال في الانتظار. وهناك حكايات كثيرة آخرى لا نعلمها عنهم. مئات الشباب لكل واحد منهم قصة وحكاية مأساوية تدمي القلب والعقل والضمير. فمتى يكون للإنسان العربي وطنا يعزه ويحميه من الضياع والتشرد والهوان ؟

ختاما اقول :ليس هناك من مصيبة يمكنها أن تصيب الأفراد والشعوب بأفدح من خراب مؤسساتهم العامة وسقوط دولهم الوطنية الجامعة في زمننا هذا؛ زمن الدول والهويات السياسية المتنافسة فلا قيمة ولا اهمية ولا اعتبار لمن لا ينتمي إلى دولة وطنية مستقرة ويحمل هويتها حيث ما حل وارتحل. الدول وحدها هي من تصون وتحفظ كرامة مواطنيها وتمنحهم الإحساس بالعزة والكرامة والافتخار أما القبائل والعشائر والطوائف والمذاهب فهي الاطر التي تبقى وتزدهر بعد خراب الدولة بوصفها هوياتا مرجعية تقليدية ما قبل سياسية وحضارية تعيد المجتمع إلى اللحظة البيولوجية الذئبية؛ حيث حرب الجميع ضد الجميع!
إذ ليس بعد أنهيار الدولة إلّا العودة إلى ما قبل الدولة، إلى الحالة التي وصفها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز بعبارة «حرب الجميع على الجميع»، حيث لا وازع من الناس يَزَع بعضَهم عن بعضهم، ويَكُفُّ أذى بعضِهم عن بعضهم، كما يرى عبدالرحمن بن خلدون قبله. لم تَهْتَدِ البشرية إلى تركيب معادلة أخرى غير التي كانت سارية في التاريخ، وأدركها العقل الإنساني، وسَلَّم بأنها المعادلة التي تفتح للمجتمعات باباً نحو الاستقرار والتعايش والتقدُّم، لأنها المعادلة التي تُخمِد نوازع الشرّ في البشر (وهي من صميم نوازعهم الحيوانية)، بل التي تجعل الإنسان إنساناً حين تهذّبُه، وتُخْمِد منزِعه الافتراسي، وتُخْضِعه لنظامٍ جماعي يتجاوز نداءَهُ الحيويّ الحيواني)، ويَعْقِلُه.

لم تكن الدولة/ الدول «الحديثة»، التي قامت في البلاد العربية، في القرن العشرين، ممّا يصِحّ نعتُها بالدولة الوطنية الحديثة، لأنها ما قامت على عقدٍ اجتماعي متوافَق عليه، ولا تأسَّست على مبادئ المواطنة، والفصل بين السُّلط، ومُجْمل ما يقع ضمن منظومة الدولة الوطنية الحديثة من قواعد، بل هي إلى مزيجٍ من نظامِ الدولة السلطانية والدولة الكولونيالية كانت أقرب، وكان التجاذب فيها – لهذا السبب بالذات – حادّاً بين منطق الدولة التقليدية، بتقاليدها الاستبدادية العريقة، ومنطق الدولة العصرية الذي لم يمسَّ فيها إلّا السطوح والقشور. لكنها، مع ذلك كلِّه، كانت دولة أو كانت فيها ملامح من الدولة: السلطان السياسي الجامع، والنظام والقانون، والحدّ الأدنى الضروري من الأمن الاجتماعي الذي من دونه لا تكون حياةٌ عامة ولا خاصة( ينظر، عبد الإله بلقزيز، مابعد انهيار الدول)