آخر تحديث :الأحد-28 أبريل 2024-07:06م

ثورات الربيع العربي ،، قراءة في فكر د. رفيق عبدالسلام وزير خارجية تونس الأسبق.

الجمعة - 23 فبراير 2024 - الساعة 10:44 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب




الثورة كمصطلح سياسي هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره باندفاع ، يحركه عدم الرضا أو التطلع إلى الأفضل أو حتى الغضب.

 وصف الفيلسوف الإغريقي أرسطو شكلين من الثورات في سياقات سياسية:
التغيير الكامل من دستور لآخر .
التعديل على دستور موجود.
يقول لينين :" الماضي مات ، والجديد لم يُولد بعد " .

في حركة اندفاع  ثورية عفوية عنيفة قررت الشعوب النزول  إلى الشوارع، واكتساح الميادين ، والأماكن العامة معبرة عن غضبها ، ورفضها لأنظمة قمعية ، استبدادية ، أسرية ،  تسللت خلسة إلى منصة الحكم ، واغتصبت السلطة اغتصاباً لعقود من الزمن ، فأحالوا الأوطان إلى ما يشبه الضيعات لهم ولأسرهم ، ومقربيهم ، وأغلقوا جميع النوافذ على الداعين لإصلاح الأوضاع ، ولم يتركوا بصيصاً من أمل للشعوب كي تتنفس عبق الحرية ، أو تحيى بكرامة .
صمت جيل التدجين طويلاً على تلك الأنظمة ، بل استساغوا الذل ، وارتشفوا الهوان، وتماهوا مع سلطة الأمر الواقع ، وطأطؤوا رؤوسهم جبناً ، وذلاً .

فلمَّا رآى جيل التغيير استحالة استيقاظ أولئك النائمين ، ورضوخهم للأمر الواقع ...
قرروا النزول إلى الشارع بابتكارهم فعلاً ثورياً لم تكن تتوقعه القوى الفاعلة سياسياً واجتماعياً في الداخل ، كما لم يستوعبه اللاعبون  إقليمياً ، ودولياً ...
تمثل ذلك في رفع شعار السلمية لفعلهم الثوري ، متحدين الآلة العسكرية ، محطمين القبضة الأمنية ، مجسدين فعالياتهم بصورة راقية أذهلة الجميع .

فكانت نتيجة ذلك ...سقوط أول قلاع تلك الأنظمة العتيدة في تونس وهروب بن علي في فترة وجيزة جدآ.
فكان ذلك الفعل بمثابة الشرارة التي ألهبت مشاعر الثوار في جميع العواصم العربية ، وزادت من حماستهم ، وقوَّت من عزائمهم ...فتناغمت أصواتهم بشعار موحد ( الشعب يريد إسقاط النظام ) محافظين على سلمية ثورتهم ، رافضين الإنجرار إلى مربع العنف مهما كلفهم الثمن .
فلما تمض فترة وجيزة حتى نجح الثوار بإسقاط مبارك ، ثم تبعه علي عبدالله  ،
لتكون تلك الدول الثلاث نموذج للتغيير السلمي  ، في حين خسر ثوار سوريا ، وليبيا خيار السلمية وسقطت تلك الدولتان في مستنقع الإحتراب ...فأُزيح القذافي بقوة السلاح ، ونجح الأسد في قمع الثوار ، إلا أنَّ قوى الدولة العميقة لم تبارح المعركة ، ولم تضع السلاح ، فعملت على تنظيم صفوفها ، وامتشقت سيف الانتقام لتنال من تلك التجارب الناجحة ، فسارعت إلى الإجهاز على الثورة المصرية بطريقة إحترافية ماكرة ، والتفوا على ثورة ليبيا  واليمن بإشعال الحروب الأهلية ، وتعرضت الثورة الأم في تونس قبيل عامين تقريباً للإلتفاف ، والطعن من الخلف !!

اليوم وبعد مرور عقد من الزمن على تجربة ثورات الربيع العربي... ينقسم الناس إزاء هذا الفعل الثوري إلى قسمين اثنين .
القسم الأول  : يرى أنَّ ما تمر به تلك الثورات من انتكاسات ، وإخفاقات ...هو أمر طبيعي شأنها شأن كل ثورات شعوب العالم .
القسم الثاني : يرى أنها مجرد انتفاضة عابرة لا ترقى إلى مستوى الثورة .

والحقيقة أنَّ الناظر إلى الأمر بموضوعية ، وحيادية ، وعقلانية يتبين له مايلي :
أولاً : ما يثبت أنَّ الذي حصل هو  ثورة حقيقية ، وفعل ثوري مؤثر .....وجود الثورات المضادة .
تلك الثورات التي ما كانت لتظهر لولا وجود حقيقي لفعل ثوري يهدد وجودها .
ثانياً: فُوجئت قوى الاستكبار العالمي بتلك الثورات التي لم  تكن في الحسبان ، كما فوجئت كذلك القوى الإقليمية والمحلية  الفاعلة سياسياً وإجتماعياً .
وهذا مثبت ، وموثق بشهادات مفكرين أجانب من العيار الثقيل...
يقول المفكر والفيلسوف اليهودي الأمريكي ( نعوم تشومسكي) : الربيع العربي قادم ، وأعداء التغيير لا يرحمون .
وهذا ما يفسر تباين وجهات نظر الدول الكبرى
بداية الأمر ..
حيث رأت أمريكا وبعض الدول الأوروبية أن يتم إحتوائها ، وكبح جماحها بصورة متدرجة .
بينما رأت فرنسا وبعض دول الخليج أن يتم التعامل معها بعنف وقسوة ، وخشونة .
فصُرفت أموال الخليج بسخاء لتنفيذ هذه الخطة ...فتم الإجهاز على الثورة المصرية بطريقة وحشية ، وتلتها اليمن التي لا يزال جرحها يثعب حتى الساعة  ، والحال كذلك في ليبيا ، وسوريا ، وأخيراً ضُربت الثورة التونسية  الأم في مقتل .

الناظرون بخبث ، والناظرون بسطحية لما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي يحمَّلون تلك الآوزار  ثورات الربيع العربي !!!
وهذا في حقيقية الأمر تجنٍ واضح ، وانحياز تام ، وموقف مجحف لم يبن على أسس علمية

بينما يرى الثوار أنَّ ما حصل هو ثورة حقيقية توافرت شروطها الذاتية والموضوعية .
 ولم يكن البوعزيزى إلا اللحظة التى انكسر فيها تراكم العجز العربى ، فانزاح حاجز الخوف ، وتحطم جدار الصمت ، وصرنا قبالة ثورة جماهير تأبى التدجين أو القولبة....
جماهير سكنت إلى الشوارع وسكنت الشوارع إليها، تأبى العودة إلى ثكناتها قبل أن تحقق مطالبها .

إنَّ مما بات من المسلَّمات لدى منظري الثورات على امتداد الكرة الأرضية ....
أنَّ الثورة عبارة عن مسار متعرج ، تسير في حركة صعود وهبوط ، وتأخذ حالة مد وجز ، ولا توجد ثورة على وجه الأرض ولدت مظفرة منذ بداياتها الأولى .
وكما يحلو لفلاسفة الغرب أن يؤرخوا للثورة الفرنسية بأنها نموذج لثورات التغيير .... يؤكدون أنها مرت بمنعطفات خطيرة ، ومنيت بانتكاسات عنيفة ، وتعرضت لهزات قاتلة كادت تودي بها .
وهذا ما يفسر طول المدة الزمنية التي استغرقتها والتي تجاوزت الثمانية عقود حتى أنجزت أهدافها .

وما تشهده ثورات الربيع العربي من انتكاسات عنيفة هو أمر طبيعي ، ويثبت أنها سائرة في الطريق الصحيح.
ذلك أنَّ التغييرات السياسية ، والاجتماعية معقدة ومركبة ولا يمكن أن تخضع لقولبة معينة ، أو لنظرية بعينها ، ويستحيل أن تمر بمرحلة سلسلة على الإطلاق .
فهي تشبه إلى حد كبير حركة الزلازل ، والبراكين ، والعواصف الهوج ، الناتجة عن تدافع عوامل طبيعية .

فكل آثار الدمار ، والخراب الذي يحدث اليوم .. ...هو في الحقيقة نتيجة لحركة التدافع بين القديم والجديد ....
فبينما يسعى رواد التغيير للخلاص من الماضي ....يقف عتاولة القديم  حجر عثرة في طريقهم ....فتحصل عملية الاحتكاك ، والصدام التي تؤدي إلى كوارث إجتماعية .

وهذه قاعدة مضطردة لكل ثورات التغيير في التاريخ البشري ، حتى الأنبياء والرسل _ وهم مؤيدون بالوحي _  مروا بتلك المرحلة .
ويكفي على سبيل المثال ما حصل للرسول محمد وصحابته .
فرسول الله قاد عملية ثورية تغييرية لتلك الأوضاع السائدة آنذاك ، وأراد إحلال أوضاعاً جديدة مبنية على قيم وأسس مختلفة .
لذلك حصلت عملية تصادم بين الجديد والقديم ، فكانت نتيجتها أن دفع ثوار التغيير ( الصحابة الكرام )  أثماناً باهضة جدآ جداً ، وكلنا قرأنا عن جسامة التضحيات التي قدمها الصحابة ، وكيف أذاقهم قادة النظام القديم ويلات العذاب ...الذي لم  يسلم منه قائد التغيير ( محمد )  نفسه ، حيث تعرض لأصناف من الأذى لا توصف .
لذلك لم تمر تلك العملية بسلاسة رغم أنها مؤيدة بالمعجزات السماوية، بل اختلطت بهنات وأنات ،  وآهات وتوجعات ، ودماء ، وأشلاء ، ولم تحقق أهدافها إلا بعد مرور أكثر من  عقدين من الزمن .

وهذا يدحض أدعاء المتقولين بأنَّ ثورات الربيع العربي هي سبب كل البلاء الذي نعيشه اليوم .
فهذه الثورات لم تُمنح الفرصة الكافية لإثبات ذاتها ، فمنذ ولادتها تعرضت لعمليات قرصنة  عنيفة أفقدتها صوابها ، فضلاً عن كونها تجربة وليدة لم تكتمل ملامحها بعد .
فعتاولة الدولة العميقة امتصوا الضربة الأولى ، وتراجعوا خطوة إلى الوراء ريثما يلملمون شتاتهم ، ويعيدون تنظيم صفوفهم ، ويجمعون أوراقهم ...فأعادوا الكرة مرة أخرى 
بفكر دولي ، ودعم مالي خليجي سخي ، فنجحوا في العودة إلى الواجهة بثوب جديد ، فسببت تلك العودة _ لفلول النظام البائد _  هذا الخراب الحاصل على مستوى العالم كله العربي.

فلماذا إذن  تلام ثورات الربيع العربي ؟
لماذا لا نضع النقاط على الحروف ، ونشير بالسبابة إلى مكمن الداء ؟
أليست  تلك القوى العتيقة هي من استخدم القوة العسكرية لفرض سياسة الأمر الواقع ، واتخذت من القبضة الأمنية إستراتيجية للتعامل مع الثوار ؟
أليست هي من زرعت فنون الفتنة ، وغذت الجماعات المسلحة لخلق نوعاً من الفوضى ، أدٌى إلى هذا الخراب ؟
ألم تستخدم قوى الثورة المضادة كل الأساليب الوقحة لضرب الثوار ، وتصفيتهم ، والزج بهم في السجون ، وإقصائهم بصورة غير لائقة ؟

للأسف لم تكتف تلك القوى بأنَّ قادة الثورة قد تجاوزوا عقدة الانتقام ، وانتهجوا مبدأ العفو ، ولم يستسيغوا سفك الدماء لتلك الطبقة الحاكمة التي أفسدت في الأرض لعقود من الزمن ، بل استغلت مساحة الحرية التي منحت إياها لتعيد خبثها ولؤمها وانتقامها من الشعب ...هكذا حباً في الإنتقام ، وقمعاً للحريات !!!
فهذا هو واقع الحال ..
لذلك لا يمكن أن نساوي بين الضحية والجلاد أبداً ، ويجب أن نضع الأمور في نصابها .
فالجلاد ...جلاد .
والضحية ...ضحية .
فالثورة المضادة للدولة العميقة هي من تسببت ، ولا تزال تتسبب في الإجرام الذي يحصل  اليوم ، وقد قال أحد عتاولة النظام القديم : " سأهدم المعبد على رؤوس الكل " .

ومع هذا  ، ورُغم كل هذا .....فهذا الألم التأريخي سيكون مبعثاً لوعي تاريخي .
ذلك أن حركة الجتمعات ، والتغيرات الكبرى لا يمكن أن تمر دون ألم تأريخي .
 فهذه النتوءات ، وهذه العثرات ، وهذه التعرجات ، وهذه الآلام........مهمة جداً لاستخلاص الدروس والعبر ، والتهيئة للتغيرات في العالم العربي ، والإسلامي للعبور إلى المستقبل .

فبقراءة عميقة لثورات الربيع العربي نستخلص الآتي :
أولاً: زرعت ثورات الربيع العربي بذور الحرية فاستوطنت  عقول وقلوب الناس يستحيل نزعها .
ثانياً: أجهزت على قضية العودة إلى الأرث الاستبدادي ، والقبضة الحديدة .
ثالثاً : عمَّقت فكرة التمرد على صنمية الحاكم ، هذا التابوت الذي ما كان أحد يجرؤ أن يتطاول عليه ، أو أن يذكره بسوء .
رابعاً : كسرت حاجز الخوف ، وشجعت الجماهير على تحدي آلة القمع الوحشية.
 خامساً: ألغت مبدأ التوريث ، ووضعت الحاكم في مرى المتندرين ، والمستهزئين ، وأزاحة عنه هالة القداسة .
سادساً: ما تتعرض له تلك الثورات من هزات عنيفة ، وانتكاسات قاسية ....هو أمر طبيعي ، بل هو ظاهرة صحية تمر بها كل ثورات التغيير 

وفي تقديري أنَّ هذا منجز ضخم ، و عمل جبار ، وثمرة عظيمة ، يؤسس لمرحلة قادمة .......تهون إزائها كل التضحيات في هذه المرحلة .
والخلاصة ...
أنَّ العالم العربي يمر بمرحلة تحول قاسية ، وصعبة ،  وعسيرة ، وشاقة ، ومعقدة ...
تختلط فيها الأحلام ، والتطلعات ، والآمال،  بالدماء ، والحروب ، والأزمات ، والاخفاقات .
وهذا شأن التحولات الكبرى التي تمر بها عمليات التغيير .
لكن ما بات واقعاً لا مناص منه اليوم ...أن القديم لم يعد صالحاً ولا يملك مقومات الإستمرارية ، لإن تطلعات الشعوب قد تجاوزت النمط القديم .
والجديد لم تتشكل معالمه بوضوح ، ولم تستبن شخوصه بصورة مكتملة ..
فالقديم مات ...والجديد لم يولد بعد .

فنحن الآن في وضع مضطرب ، وأمام مفترق طرق ، وهذا يتطلب من القوى الفاعلة دراسة الواقع بعمق ، وقراءة الأحداث بقلب وعقل مفتوحين 

جربنا فكرة الانقلابات العسكرية....فكانت نتائجها كارثية ، وثمرتها مُرة .
جربنا الانتخابات التوافقية فلم تكن في مستوى المأمول .
جربنا الثورات السلمية...فلم تنجح هي الأخرى ..

ولكن لا يعني ذلك أن الأبواب قد أغلقت في وجه التغيير ، وأن الواقع السيئ يستحيل إزاحته ، وأنَّ الأنظمة العتيقة يصعب تجاوزها ......وإنما يتطلب الأمر تضافر جهود الجميع ، واستشعار المسؤولية ، والقبول بالتعدد ، ورفع الوعي المجتمعي ورفض مبدأ الإقصاء ، والتأسيس لفكرة الحوار البناء المثمر لكافة شرائح المجتمع .

ولنا في تجربة شعوب أوروبا ، وأمريكا خير مثال ...
جربوا الاحتراب ، وعاشوا فكرة الإقصاء ، وإلغاء الآخر ....فكانت نتيجة ذلك موت عشرات الملايين ، ناهيك عن الخسائر الأخرى التي تفوق الخيال !!!
وفي نهاية المطاف وصلوا إلى قناعة بضرورة التعايش ، وسيادة النظام والقانون.
فسنَّوا القوانين ، وشرَّعوا الأنظمة التي تحفظ حقوق الجميع .
 وفي فترة وجيزة داووا الجراحات ،  فتجاوزوا تلك المرحلة الصعبة ، وانتقلوا إلى مرحلة البناء ، والتنمية .
فكانت هذه النتيجة التي نراها اليوم ، وهذه الحضارة العملاقة التي نشاهدها على أرض الواقع .
فعلوا كل ذلك وتجاوزوا عقدة الصراعات ، ووقاحة الإنتقامات ......رُغم اختلاف دياناتهم ، ولغلاتهم ، وثقافاتهم ، وأجناسهم .

أفلا نستطيع _ نحن العرب والمسلمين _  أن نتجاوز عقدة الصراعات ، وعفن الإنتقامات 
 ونحن الذين يجمعنا دين واحد ،  ونبي واحد ، وكتاب واحد ، ووجهة واحدة ؟!!!

أجزم أنه لن يخرجنا من هذا النفق المظلم ، إلا أن ندرس تجارب الآخرين الناجحة ،وأن نسلك طريقهم ، وأن نحذو حذوهم .