تمر السنين ، وتتعاقب الأيام ، يأتي صباح ، من بعد صباح ، لكنها مجرد صباحات باهته ، لا تشابه صباحات أبي ، فصباح أبي لا يضاهيه صباح .
مضى ما يقارب عقداً من الزمان ، على رحيله ولا زالت تلك التهليلات ، والتسبيحات التي يبدأ بها يومه ، عالقة في مسامعي ، فحين يعلوا بها صوته ، كنت أعلم يقيناً ان الفجر قد أقترب ، وماهي الا لحظات ، حتى يرسل اول خيوطه ، ناسجا طيفاً من البياض ، على لوحة الليل الحالك .
كان لذلك الهدوء حكاية عشق فريدة ، يمتزج فيها السكون ، مع قعقعة أعواد الحطب ، وحسيس النار الدافئة التي أعتاد أبي ان يوقدها ، وهو ينتظر موعد الصلاة ، فيحمل دلت الوضوء ، ومن مصلاه الترابي يجهر بما تيسر له ، كان لتلاوته حلاوة ، يكتسب منها الصباح رونقه الجميل ، وحين يتجه أبي الى مجلسه ، تبدأ طقوسه المعتادة في تحضير المداعة ، فكانت حبات الجمر ، وموقد النار ، واعواد التبغ ، ودلة الشاي ، والقهوة ، حاضرة في المكان .
يراودني الحنين لتلك اللحظات ، التي غالباً ما يروي لنا فيها حكايات عن الأسلاف ، والأعراف ، ويستعيد فيها شئ من المواقف والاحداث التي عاشها وعايشها ، فتبرز الحكمة تارة ، وتحضر الكوميديا في لحظات كثيرة ، وحينها ، يتسلل النور رويداً رويداً ، ليميط اللثام عن تقاسيم وجهه ، فتبرز تلك البقعة الترابية التي ارتسمت في جبهته من أثر السجود ، وكأنها قبلة الأرض التي احبها واحبته .
كان أبي في صباحاته مبتسماً رغم بساطة حياته ، متفائلاً ، قنوعا ، حسن المزاج ، وصافي الذهن ، تشعر وانت في مجلسه ، بان للعطاء ، والسعي ، والعمل ، موعد يتيم ، لا يحضر الا في ساعات الصباح الأولى.
غاب أبي ، وعاد الصباح ، لكنها وان تتابعت ، لم تعد الا صباحات باهتة ، لا تشابه صباحات أبي.