آخر تحديث :الأربعاء-16 أكتوبر 2024-11:54ص

من وحي افتتاح جامعة جديدة في عدن

الأحد - 20 أغسطس 2023 - الساعة 07:24 م
د. قاسم المحبشي

بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


في وجه الشبه بين العقل والجامعة 
من وحي افتتاح جامعة جديدة في عدن

سأل التلميذ جون والده ريتشارد: ما هو العقل يا أبي .. أريد أن ارأه ؟ فتحيّر الأب في إيجاد جواب مقنع لسؤال ولده الذكي، ولكنه فكّر بطريقة ملهمة وقال: غداً سأجيب عن سؤالك يا تلميذي النابه ! وفِي صباح اليوم التالي أصطحب الأب ابنه الى الجامعة وزار به معظم كلياتها ومكتباتها ومختبراتها وأقسامها وإدارتها وقاعاتها وساحاتها ومرافقها وشاهدا طلابها وطالباتها وأساتذتها وبعد أن أكملا الزيارة. سأل الأب ولده قائلاً: الآن قل لي يا جون ماهي الجامعة ؟ قال: الأبن بذهول لم أرها بعد يا أبتي! وأضاف كلما رأيته هو كليات ومكتبات وطلاب وطالبات وقاعات وكراسي وطاولات ومعلمين ومعلمات وكل الأشياء التي شاهدناها معاً. فرد عليه والده ريتشارد برافو عليك يا جون الجامعة هي كل مارأيت والكل أكبر من مجموع أجزاء ومن هنا جاء معنها في اللاتينية Universities التي تعني Corporation الجسم كله، وقد ظل معناها حصريا ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities )أي الجامعات. إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها ومكوناتها فرادى.

من الواضح أن كلام ريتشارد الأب عن معنى الجامعة هو أكبر من قدرة تلميذه على استيعابه. ولكنه بهذه الطريقة البارعة استطاع أن يثير حالة من التفكير والتأمل الخلاق في ذهن طفله الصغير ممهدا بذلك السبيل لتفهيمه معنى العقل الذي يستحيل رؤيته بالعين المجردة، بوصفه مفهوما مجردا يعبر عن مجموعة من العناصر والفعاليات والعلاقات العضوية المترابطة في شبكة هائلة من الاتساق والعلاقات ( دماغ وخلايا عصبية وفصوص وشعيرات وحراس وإحساسات وانفعالات وادراك وذاكرة ووعي وخيال،وأحلام ولغة وكلام ..الخ) إذ يبدو العقل مثل الجامعة تماما بوصفه مجموعة عناصر ونشاطات وتفاعلات لملايين الخلايات والشعيرات العصبية الحية في جسم الإنسان العاقل، وكما أن الجامعة هي نتاج ترابط وتفاعل كل هذه الأجزاء التي تتكون منها فكذا هو العقل حصيلة ونتاج مجموع عناصره وعلاقاتها التفاعلية! وكما إنه يصعب تخيل العقل دون جهاز مركزي يغذي الجهاز العصبي بالتعليمات ويرسل ويستلم عبره الإشارات فكذلك يصعب تصور الجامعة دون مكتبة مركزية تغذي المكتبات الفرعية بالكليات بما تحتاجه من مصادر ومراجع ومجلات وحوليات وغير ذلك من الإصدارات المتجددة باستمرار. لا وجود للعقل بدون الحواس والذاكرة، ولا وجود للجامعة دون المكتبات المفعلة والفاعلة. إذ تعد المكتبة بالنسبة للجامعة بمثابة الروح من الجسد بالنسبة للكائن الإنساني، ففيها كنوز العلم والمعرفة العلمية وخلاصة الحكمة والفكر والثقافة الإنسانية المتنامية منذ فجر التاريخ البشري، وقد ارتبط التعليم الجامعة بالمكتبات العلمية التخصصية منذ تأسيس المؤسسة الأكاديمية الحديثة قبل ثمانية قرون، إذ كانت المكتبة التخصصية هي اللبنة الأولى في بناء الكليات الجامعية، وكان الشرط الأول لتأسيس الكليات الأكاديمية هو توافر مجموعة من المصادر والمراجع العلمية في التخصص المطلوب. وهكذا تطورت الجامعة وتطورت معها المكتبات العلمية بحيث باتت تنقسم الى مجموعة من التخصصات والأجنحة المرتبة بحسب التخصصات العلمية التي تقوم الجامعة بتدريسها للطلاب في الكليات والأقسام العلمية. وفِي سياق التنافس المحموم بين الجامعات المعاصرة، شهدت المكتبات الجامعية نقلة نوعية كبيرة بفضل التكنولوجيا الرقمية، إذ باتت معظم مكتبات الجامعات المركزية في كثير من مختلف الدول، هي مكتبات رقمية يمكن للطلاب والمعلمين زيارتها والدخول اليها وأخذ ما يحتاجون منها من مصادر ومراجع ومعلومات من الانترنت وهم في منازلهم أو في أي مكان كانوا وجامعة الإسكندرية خير مثال على ذلك.

خلاص الفكرة: تعد الجامعة مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل..وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. ولما كانت المؤسسة الأكاديمية بالنسبة لنا هي فكرة حديثة وجديدة في سياق يفتقد الى تراث سابق لتأسيسها فمن الأولى بناء الاستفادة من التجارب والخبرات السابقة التي ازدهرت فيها المؤسسة الأكاديمية وحافظت على كيانها المؤسسي المستقل منذ قرابة سبعة قرون من الزمن.

يعود مصطلح أكاديمي إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون ، أول من أطلق اسم أكاديموس ( على المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ليعلم تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة، تمييزا له عن أنماط التعليم السفسطائي. ثم تطور المصطلح فيمابعد،منذ مطلع العصر الحديث ليكتسب معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل العلم والتعليم العالي، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة ونقدها وإنتاجها واستخدامها في حل المشكلات باتباع طرائق وأدوات منهجية علمية معيارية واضحة ومحددة، بما يشتمل عليه ذلك النشاط من قيم مهنية أكاديمية، منها: الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد ... إلخ. وقد ترسخت المهنة الأكاديمية منذ أن تحولت إلى مؤسسة اعتبارية مستقلة فيما عرف بـ)الجامعة(؛ إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى. ويرى توبي أ. هف في كتابه )فجر العلم الحديث( أنه من المصادفات التاريخية أن الكلمة اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله، قد انحصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities )الجامعات. في المجتمعات المتعافية طبعا أما إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعا ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع افرادا ومؤسسات  أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام. وهذا ما يحدث في بعض مجتمعاتنا العربية التي تعيش عقود مستمرة من الفوضى والانحلال .
شاهدت مشهد افتتاح الجامعة الجديدة في مدينة عدن بصورة صادمة لا تليق بالمؤسسة الأكاديمية ورغم ذلك نقول للقائمين عليها: مبارك التأسيس والافتتاح وخطوة عملية على الطريق الطويل. والقران يبي له قليل عقل