آخر تحديث :الأربعاء-16 أكتوبر 2024-11:54ص

في مخاطر  الخلط بين السياسي والسياسة

الخميس - 11 أغسطس 2022 - الساعة 12:13 م
د. قاسم المحبشي

بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


 

يرتبط الشأن السياسي للناس بحاجتهم إلى العيش المشترك في مؤسسة مدنية منظمة بالدستور والقانون وفقا لمبدأ قوة الحق لا حق القوة. وقوة الحق تعني أن لكل مواطن يعيش في مجتمع سياسي حق متساوي بالأهلية والقيمة والجدارة مع اشباهه من المواطنين بغض النظر عن مواقفه واتجاهاته الايديولوجية فالوجود السياسي للناس هو الأمر الجوهري في تأسس الدولة الوطنية العامة ولا شأن له بالشعارات والرايات والأسماء والصفات الايديولوجية المختلقة التي يطلقها الناس على انفسهم والآخرين من قبيل؛ وطني وغير وطني جمهوري وغير جمهوري وحدوي وانفصالي الرعاة والرعايا السادة والعبيد ..الخ تلك هي فقاعات تتصل باللعبة السياسية المفترضة بعد تأسيس المجال السياسي الذي كان يجيب أن يحتوي كل المواطنين على درجة متساوية من القيمة والجدارة والأهلية ولا فضل لاحد على أحد في ذلك ابدا فالمواطنة حق وليست مكرمة والعيش المشترك في دولة جامعة للمواطنين القاطنين على الأرض المتعينة لا يتحدد بانتماءاتهم الايديولوجية ومواقفهم السياسية والسؤال ليس هو من هو الوطني ومن هو غير الوطني؟ بل هو كيف يمكن للمواطنين أن يعيشون في وطنهم بكرامة وأمن وسلام؟ وبدون هذا التمييز الدقيق بين السياسي والسياسة تضيع الشعوب والأوطان والحالة اليمنية شاهد حال ومآل. فمن هو الوطني اليوم في اليمن ومن هو الوحدوي ومن هو الجمهوري ومن هو اليمني؟! اسئلة تتصل بالسياسية بعد خراب البيت السياسي الجامع ومن ثم فلا قيمة لها ولا اهمية ولا يمكنها أن تساعد على لملمة الأزمة وجمع الشتات وتدبير الحياة المشتركة للجميع في دولة ذات سياسية. ربما كانت الوحدة اليمنية فرصة سانحة لتمكين المشترك السياسي اليمني بين الجنوب والشمال وبسبب قصر نظر القوى التقليدية المهيمنة تحولت إلى حرب غاشمة ثم تناست إلى ما نراه اليوم من سقوط الجمهورية والدولة والسيادة وعودة الملكية الإمامة وضياع الوحدة وتمزق البلاد والعباد والارتهان إلى قوى خارجية. 
إن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للناس بذاتها ولذاتها دون عنأ أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات دون أن يتمكنوا من إختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والإحتكاك المباشر بالآخرين تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة إذ بأضدادها تتمايز الأشياء. والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب في عمليات الذات والآخر لا يتم إلا بالإحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائماً مرآة الذات ومبعث هويتها. وهنا يمكن لنا الإمساك بجذر المشكلة التي أرقت المفكر السياسي الفرنسي دوبرية حينما تساءل: «لماذا ينبغي أن تزيغ عقول الناس بمجرد أن يعيشوا في مجتمع؟ هذا هو السؤال الذي يجب علينا نحن العرب مواجهته، إنه سؤال العيش في مجتمع مندمج منظم سياسي عادل ومستقر. فما الذي يفسر عجزنا المستديم عن إنجاز هذه النقلة الضرورية من الحالة الطبيعية حالة (حرب الجميع ضد الجميع) حسب هوبز إلى الحالة المدنية والعقد الاجتماعي والمؤسسة الجامعة دولة المواطنين الأحرار بحكم القانون؟ يقول المستشرق لجرنز وويل «كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرأون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي؟».هكذا يعاود سؤال السياسي والسياسة الحضور كالجرح النازف.

ان السلطة التي تتخذ من العنف الخيار الوحيد في حل مشكلاتها وأزماتها تعمل على تقويض ذاتها وتهديد حياة مجتمعها، اذ يستحيل تبرير مشروعية العنف في كل الحالات، فاذا لم يكن العنف استثناء تستدعيه ضرورة قاهرة وفي لحظة مباغتة للحفاظ على حياة الناس ومصالحهم وتأمين سعادتهم ومستقبلهم ضد اي تهديد خارجي مؤكد، فإن السياسة والتسلطة السياسية تضع نفسها على شفير الهاوية و«حينما يكون الحصان على شفأ الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لا يقافه».. أليس هذا هو الحال الذي بلغته تسلطية قوى الهيمنة التقليدية اليمنية التي حولت مشروع  الوحدة الدبلوماسي الى جريمة حرب وتكفير شاملة ومن ثم تدمير ونهب واحتلال غاشم للجنوب. 
والسؤال اليوم ليس ماذا يعتقد الناس ويقولون ويفعلون بل لماذا يعتقدون فيما يعتقدونه ويقولون ما يقولونه ويفعلون ما يفعلونه؟

ساظل أكرر القول أنه من  المهم التمييز بين كلمتي السياسة والسياسي, إذ أن الخلط بينهما يشوش الرؤية, فاللفظ سياسي يشير إلى الكائن الإنساني بوصفه كائناً اجتماعياً أو مدنياً حسب أرسطو وابن خلدون بمعنى الحياة المشتركة للناس في المجتمع أو ما يعرف بالشأن العام , بينما تشير لفظة السياسة إلى عملية إدارة الشأن العام بوصفها علاقات قوى , وبهذا يمكن لنا فهم عبارة روجيس دوبرية, " طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي. إنها تخفيه, ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر, بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكك التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة, وشرعات كثيرة, ولكن هنا سكة حديد واحدة, أو سكة صليب"نفهم من ذلك أن وجود السياسي في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية, مثل بنية القرابة, والأسطورة وهذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي, نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها, بنية التكرار؟ وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي. وقد اختلفت تعريفات السياسة, فالبعض يعرفها(بتسويس الأمر)أو ب(فن الحكم) أو (فن الممكن) أو (تدبير الشأن العام) والبعض يعرفها(بالخلافة أو السلطان أو الوازع أو تدبير الملك) حسب أبن خلدون وأخر يعرفها ب(العقد المدني أو الإرادة العامة) أو(طريقة الوصول إلى السلطة واحتكار القوة) أو (علاقات القوة والهيمنة) حسب ميشيل فوكو ..الخ. وإذا ما كان علينا صياغة تعريفاً إجرائيا لمعنى السياسة فيمكننا القول: بأنها تلك المؤسسة الجامعة ( مؤسسة المؤسسات) الدولة التي تحتكر حق استخدام القوة وتضطلع بتنظيم شؤون مواطنيها بوصفهم جمهوراً أو شعباً أو مواطنيين, يتمتع جميع إفراده بأهلية وقيمة واقعية واعتبارية متساوية في الحقوق الأصلية, وحماية بعضهم من بعض وتأمين حياتهم وصون سيادتهم بما يحقق استقرارهم ونماءهم وازدهارهم.

أ.د. قاسم المحبشي