آخر تحديث :الجمعة-26 أبريل 2024-09:34ص

المُعَلّمُ اليَمنيّ.. بينَ تَنكُّرِ الدولةِ وتَنمُّرِ المواطن.

الجمعة - 05 أغسطس 2022 - الساعة 08:30 م

فرج العامري
بقلم: فرج العامري
- ارشيف الكاتب


 

يُعدّ التعليم أشرف المهن في حقيقتها وأهمهما على الإطلاق إلى الحد الذي يمكن أن تكون مواصلةً لقداسة الرسالة السماوية من حيث المعنى والأهداف والغايات، وبذلك كاد المعلم أن يكون رسولا، فله اعتباره السامي ومكانته الرفيعة 
أما في بلدنا اليمن، ففيه _كما في أمثاله من البلدان _ يُضطهَد المعلمون وتؤكل حقوقهم وينتقص من مكانتهم ومع كل هذا تجد هناك من "يشخط" وينخط عليهم بصورة استفزازية غير لائقة، مطالباً إيّاهم بالقيام بواجباتهم، وغفل هذا المغفّل أن الأولى به قبل أن يطالبه بواجبه، أن يؤدي إليه حقوقه، وأولى هذه الحقوق الاحترام والتقدير اللازمَين كما يجب وينبغي.
فالمعلم أحوج ما يكون إلى احترام المجتمع له واهتمام المنظومة التربوية به، حتى يشعر بالرضا وتطمئن نفسه ويتوقد عقله ويندفع إلى قيامه بواجبه المرسوم له بكل همةٍ وحماسة لا بضغطٍ وإجبار.
ولن تكون لأيّ أمةٍ أو شعبٍ أو مجتمعٍ قيمةٌ مالم تكن للمعلم قيمةٌ ومكانةٌ ترقى إلى درجة التبجيل بوصفه يؤدي دور الرُسُلِ _والذين هم بذاتهم بُعثوا معلمين _ في ترسيخ الأخلاق وتنوير العقل وتعليم الآخرين، وإنما تقاس درجة تقدم الأمم بمعيار مكانة معلميها ومدى تقديرهم، وبهذا يُبانُ نُضجُ المجتمعات ورقيُّ الشعوب.

ولم تَصِل صروحُ الأممِ المتقدمةِ إلى ما وصلت إليه الآن من عزٍ سامقٍ إلا من بعدما أجادت تشييدَ الأساس، والذي يتمثل في دور المعلم وإعطائه المكانة اللائقة به بوصفه نقطةَ الانطلاق إلى أقصى ما يُطمَح إليه من مكانةٍ وصدارة، والدول التي وصلت إلى أوجَ التطور كاليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا لم تصل إلى ذلك بالنفط وهي الذي لا تملك منه قطرة، ولا من الثروات المعدنية والتي هي شحيحةٌ جداً على أراضيها، بل وصلت إلى ذلك بالإنسان، ذلك الإنسان هو الثروة الحقيقية لمن أراد أن يبني ويستمثر على المديَين القريب والبعيد، وأول خطوة إلى هذا الاستثمار تبدأ بذلك المعلم الذي يُمنح كامل حقوقه المادية والمعنوية، ثم تكون تلك المعجزات التي نعجز عن أن نحلم بها، ماثلةً أمامنا على أرض الواقع.. وكل شيءٍ بسيطٌ وممكن، وما التعقيد والاستحالة إلا لمن قيدوا أنفسهم فكرياً وجعلوا من كلّ سهلٍ صعبا ومن كلّ ممكنٍ مستحيل.
أما بخصوص المعلمين اليمنيين الذين يعانون من تنكر الدولة لهم إلى حدٍ النسيان مما اضطرهم إلى الدعوة لإضراب شاملٍ في الايام الأخيرة، فأنا عن نفسي شخصياً وعن كل ذي عقل وقلب أؤيد قيامهم بهذه الخطوة  للمطالبة بكامل حقوقهم المشروعة بشرطٍ لازمٍ لابد منه وهو ألّا يكونَ هذا الإضراب نوماً في البيوت، بل يجب أن يرافقه نشاط تصعيدي منظمٌ من قِبَل النقابةِ على شكل تحركات جماعية ميدانية ووقفات احتجاجية مسنودة بحملات تأييد شعبية قوية لإيصال رسالتهم إلى الجهات المعنية التي لن تعلم بأن هناك إضراب عن التعليم إلا إذا انتفض ذووا الحقوق ومساندوهم من الواعين الصادقين وأثاروا نَقعَ الأرض دخاناً بخطوات لا تراجع عنها حتى تحقيق الأهداف، وما أسهل ذلك لو كان هناك وعيٌ وحراكٌ وشعورٌ بالمسؤولية.

وللعلم فإنّ جميع الموظفين في سلك الدولة إذا لم تسلم إليهم رواتبهم يضربون عن عملهم أو يتركوها للبحث عن عملٍ آخر يُطعمون به أولادهم ولا يتهجم عليهم أحد، وهذه حقيقة واقعية عصية على الإنكار، أما المعلم فإنه إذا فعل ذلك كغيره قامت الدنيا عليه ولم تقعد وهوجم في حقه أشد الهجوم..

سيقول قائل: إن الإضراب سيضر بمستقبل الأجيال وتعليم الطلاب، أرد عليه: لا يا عزيزي، إنما الذي سيضر بمستقبل الأجيال وتعليم الطلاب هو بقاء ذلك المعلم يمارس واجبه بضغطٍ وإكراهٍ بعدَ حِرمانه من حقوقه الذي تكفل بها الدستور وشرعها القانون، وقبل ذلك فرضها الدين وأوجبتها الإنسانية.. وإن كنت صادقاً في قولك أنّك تؤمن بأهمية التعليم وتهتم بمستقبل الأجيال فإنّ إيمانَك بمكانة المعلم واهتمامك بحقوقه واحتياجاته هو السبيل الأمثل إلى تمكين الأجيال وتشييد المستقبل الذي يتطلع إليه كل ذي طُموحٍ نبيل.

لا أعلم بأيّ عقلٍ كيف تطلب من ذلك المعلم الجائع أن يشرح الدرس لتلاميذه مع كامل علمك بأنّ الجوعَ كافر! إذن لا بأس، لنفترض أنّك أجبتني بأنّ عليه أن يصبر ويحتسب أجره على الله. أوافقك مبدئياً يا عزيزي، وهاهو المعلم قد سمع كلامَك وقرر الآن بدءَ شرح الدرس جائعاً صابراً بصبرٍ يقترب من صبر الأنبياء، ناسيًا أنه إنسانٌ تنهارُ قوّتُهُ إذا جاع، محتسبا أجره على الله، لكنه فجأةً تذكَّر أنّ أولاده الذين هو مسؤولٌ عنهم في البيت أيضاً جَوعى من دون أي طعامٍ وهم خِفافٌ لا يتحملون قَرصَ الجوع، ضِعافٌ لا يملكون صبر الأنبياء مثله، وأنّ امراته مريضةٌ تعاني دون علاج، وشفاء المرض لا يستغني بالصبر عن الدواء، وأنّ صاحب البقالة يطالبه في كل مرةٍ يراهُ فيها بقيمة كيس دقيقٍ استدانه منه في شهر يناير المنصرم، صائحاً في وجهه "تجعل نفسك في أخلاق الأنبياء وأنت لم تفِ بوعودك وتقضي ما عليك من الديون"! .. وهنا عليك أن تفكر قليلاً "ماذا لو كنت مكان ذلك المعلم؟" لا أشك أبداً في أنك ستنقلب كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه لسان حالك شعاره "عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفَه! 
أو ربما ستنفجر كجيفارا تتقفز بين القارات تقود الثورات الشعبية بالنار والبارود. 
متأكدٌ من أنّك ستكون على حال هؤلاء أو ممن يؤيدون أفكارهم على الأقل، وستُنسيك عَضّاتُ الجوع عِظَاتِ الشِبع، وهنا أؤكد أنّ شعورك بديهياً على حق ما دمت تطالب بحقوقك بالطرق القانونية، أو تضطر إلى أن تنتزعها انتزاعاً ممن لا يعيرونك أية قيمة.

وقد يقول آخرون إنّ على المعلمين أن يدواموا بشكلٍ منضبطٍ إيفاءً بالحقوق التي كانوا يستلمونها سابقاً! ولَعزةِ اللهِ إنّ هذا الكلام الأرعن لا يخرج عن نِطاق الحماقة التي أعيت من يداويها.
هل يقصد أنّ المعلم كان طوال مسيرته التعليمية يكدّس من تلك الحقوق الهزيلة أموالاً وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة إضافةً إلى استثمار جزءٍ منها في الأسهم والعقارات، وقد حان لقارون الآن أن يخرج كنوزه ؟!
كلامٌ أقلُّ ما نقول عنه أنه لا يصدر إلا عن أحمق جاهل أو متشفٍ حاقد.
يا هذا لو كنت ذا نيةٍ صادقة وغايةٍ بيضاء لكنت أول من يؤيد المعلمين للمطالبة بحقوقهم بالإضافة إلى تصبيرهم روحياً وتقديرهم معنوياً والرفع من مكانتهم اجتماعياً لا متشفياً غبياً يتصرف بما يضر مجتمعه ووطنه ومستقبل الأجيال وهو يدري أو لا يدري، وكلتا حالتيه أقبح من الأخرى.

أعرف أحد المعلمين _ وهو ممَّن تشرفت بالتعلم على إيديهم_ له في مسيرته التعليمية ما يناهز 30 عامًا يقوم بواجبه على أكمل وجهٍ وأفضل صورة، ولم أذكر طوال تدريسه لي انّه تَغيَّبَ عن حصةٍ له أبداً، ولا تقاعس في تعليم الطلاب ولا تثاقل في تفهيمهم الدروس التي يقوم بتدريسها، هذا المعلم المنضبط جدًا في مهنته أصيبَ _شفاه الله وعافاه _ في الأعوام الأخيرة بمرض الفالج "الشلل النصفي" مما ألزمه البقاء في بيته طريح الفراش متألماً غير قادرٍ على توفير قيمة علاجه! مجرد علاجٍ يُعطى للمعلم في الدول الواعيةِ مجاناً كحقٍ أصيلٍ من حقوقه وليس فضلاً أو تطوع، أما معلمنا هذا الذي لا يقل عن معلمهم من حيث أدائه الواجب فقد عجز أيما عجزٍ عن ذلك، ومن أين له رفاهية توفير قيمة العلاج؟! هل من الراتب الذي لا يكفي نصف حاجات بيته الضرورية؟ والذي أشعل عليه حرباً شعواء من قبل الفارغين الذين يدَّعون أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر! مع أنّه لا يتجاوز في قيمته المئة دولار وهذا باعتباره أعلى راتبٍ لأقدمِ معلم، دَعكَ عمن رواتبهم دون الـ 50 دولاراً في وقتٍ يصل فيه سعر الكيس الدقيق الواحد إلى 30 دولاراً قابلاً للزيادة!
أليس الأولى علينا أن نمنح الحقوقَ لذويها كاملةً ثم نطالبهم بأداء الواجبات على أكمل وجه بتفعيل مبدأ الثواب والعقاب بالشكل الصارم.
أما أن يأتي الشكل الصارم للمطالبة بالواجبات ممن لا يملكون أيّ حقوقٍ تُذكَر فذلك انتكاس مؤلم لقوانين العدالة.

ترمي إليه بطفلِك العنيد المتمرد، ثم تطلب منه أن يجعلَه عبقريا يشار إليه بالبَنان وتحمله كامل المسؤولية عن الإخفاق في ذلك، مكتفياً بإعطائه صلاحية ضربه ضرباً مبرحا وكأنك قد تخلصت من أي مسؤولية تجاه ما سيصير إليه ابنُكَ محملاً إيّاها المعلم بدليل أنك قد نطقت له بتلك العِبارةِ القصيرة التي منحته صلاحية تكسير العصا على كرادسه "القرافع" ، بينما أنت في الواقعِ لا تربي ابنَك في البيت تربيةً حسنة ولا تخلقه أبسط الأخلاق، وإضافةً إلى ذلك لا تحترم المعلم ولا تُعطِه التقدير اللائق به، ثم يسير ابنَك على نهجك ويتقمص شخصيتك وينتقص من قيمة معلمه ويقلل من شأنه، بل قد يصل كما في كثيرٍ من الوقائع إلى السبّ والشتم ومحاولة الاعتداء، ثم تأتي أنت عابساً كالرجل الأخضر الخارق تخور بصوتك ضد المعلمين والتعليم، لماذا ابنك لم يحز على جائزة نوبل! أنت وابنك يا شاطر كان الأولى أن يتم حبسكم في زنزانة من طوبٍ أحمر بصحراء كلهاري لو كانت الأمور تجري مجراها الصحيح.
وفي الأخير علينا أن نفهم خلاصة القول وهي أنّه كم هو حريٌّ بنا ولزامٌ علينا أن نساند شريحة المعلمين في إيصال أصواتهم الضعيفة من المعاناة التي أنهكتهم، إلى أسماع المعنيين، ونشد أزرهم وعلى أيديهم حتى تؤتيَ هذه التحركات ثمارها المرجوّة، ويعود التعليم بكل قوته وأزهى ما يجب عليه أن يكون.. ونتمكن بعدها من محاكمة المعلم على أدنى تقصيرٍ في أهون واجب، ذلك بعد أن نكون _ كما أسلفنا القول وكررنا_ قد قمنا بالوقوف إلى جواره للمطالبة في تلك الحقوق التي هي في ضرورتها كالماء والهواء..
وإلا ما جدوى أن نتغنى بالبيت الشعري "قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا" ونحن لا نشعر بما يكابد من معاناةٍ لا يستحقها بوصفِه الأساس إلى المستقبل المنشود، ولا نمنحه حقوقه، بل أدناها المتمثلة بالاحترام؟ 
ثم نردد "كاد المعلم أن يكون رسولا" بينما نحن على النقيض نسخر منه ونستهزء به، آخذين دور المستهزئين بحاملي الرسالات السماوية ونحن نتلو قَصصَهم ولكن دون بصيرة، ومادمنا هكذا فلن يكون هناك إلا مزيد من الريح العاصف تهوي بنا إلى وادٍ سحيقٍ مُترَعٍ بالبلاء والمصائب، وإذا ارتضينا ذلك فإنّا نستحقه، وإن رفضناه بوعيٍ كان لنا ما نريد، وما زال الأمر بين أيدينا، ونحن مخيَّرون وفي الأمر خطورة، والسلاُم على كلِّ ذي ضميرٍ حي وعقلٍ يقظ، وفكرٍ يُدركُ المصلحةَ العليا ويسعى إليها بكلّ تجرُّد.