كانت الساعة تشير الى الواحدة ظهراً من يوم الخميس ٢٧ يناير ٢٠٢٢ ونحن نشد الرحال ونطوي المسافات طياً جنوباً باتجاه الحجرية وأعماقها، في مناطق تاريخية عمرت قديماً وجُهلت حديثاً.
يممنا شطر الطريق الجديد الذي يشقه اهل الخير من العمل التعاوني المثمر لتخليص تعز من حصارها ووعورة طرقها البديلة والمخربة، وهذه المرة صوب زريقة الشام، أو طريق المليوي الرابط بين محافظات تعز ولحج َوعدن، بعد أن استثارتنا وشوقتنا الصور التي كان يرفعها مهندس الطريق وائل المعمري عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
تزاحمت أجندة الزيارة في الراس مرة واحدة حتى نستمثر الوقت والجهد، ليس لمجرد متعة زيارة عادية او ترفيهية بقدر ماتكون استكشافية وبحثية لمعرفة اسرار منطقتنا المكنونة والمغيبة والتي لا نأبه لها أحياناً، بينما يأتيها المستكشفون من دول عالمية شتى.
بعد أن قطعنا مسافة تقدر بحوالي مائة كيلو متر تقريبا وصلنا وجهتنا مع أذان المغرب.
تذكرت خلال هذه الرحلة الشيقة المتاعب والصعوبات والظروف القاسية التي عانت معها اول فرقة ورحلة استكشافية دينماركية اوروبية الى اليمن؛ فرقة كارستن نيبور الدينماركية ورفاقه البروفيسورات فريدريك كريستيان هافن، وبيتر فورسكال، وكريستيان كرامر، والهر جورج، وولهم بورنفاريد، والتي قضى كل افرادها بسبب الحميات المختلفة ولم ينج منها سوى كارستن نيبور فقط ليدون رحلة الموت تلك التي قطعوا فيها آلاف الأميال البحرية والبرية، بينما نحن لا يكلف الواحد منا نفسه عناء سفر بسيط.
ذلك الوادي المجهول، أو بالأصح الجنة المجهولة من مديرية المقاطرة، الذي هو عبارة عن أخدود ووادٍ كثير المنحنيات يمثل ميزاباً واحداً للسيول الجبلية الغربية لمنطقة الحجرية الواقع بين سلسلة جبلية من الجنوب الغربي الى الشمال، ويعد أخفض مناطق الحجرية، وعند أسفله قرية ومكان اكتسبت اسمها من صفتها (الوَهْنة) كونها أخفض منطقة فيه وتقع نهاية زريقة الشام ليفصل بين شامها ويمنها جبل حدودى مرتفع لتبدأ بعده زريقة اليمن.
من المستغرب تماماً أن لا نجد اي ذكر لهذا الوادي البهيج ذي الخضرة النضرة والأشجار السامقة والمياه الدافقة في كتب التاريخ أو الجغرافيا اليمنية مع أنه طريق قوافل قديم، تقع على جنباته العديد من الحصون أو المباني التاريخية الآثارية كطريق رابط بين ميناء ذو باب جنوباً وغرباً وحتى بقية مناطق المعافر شمالاً، وهذا نستشفه من تلك المباني الآثارية على بعض قمم سلسلته الجبلية. يجري ماؤه طوال العام، وهذا نادر جداً في هذا الزمن والمكان؛ حيث جفت الكثير من الغيول والوديان ولم تعد كسابق عهدها.
وعلى الرغم من طول الوادي وخصوبته ومائه الوفير وزراعته التي يبدو من خلالها جنة خضراء، فهو اقل سكاناً من بقية الأودية الأخرى، ربما لافتقاره الى شبكة المواصلات الحديثة من طرق وغيرها ماجعل كثيراً من ساكنيه يعيش في مختلف المدن اليمنية؛ اذ لا تخلو مدينة من مدن اليمن من الزريقيين يشغلون المهن والوظائف المختلفة.
للزريقة منطقتان وتسميتان تبدوان غريبين عمن لم يعرف اللغة اليمنية؛ وهما زريقة الشام وتعني الشمالية، وزريقة اليمن وتعني الجنوبية؛ فالشام في اللغة اليمنية القديمة وكل اللغات السامية الأخرى تعني الشمال، وكذلك اللفظ "شأم" الوارد في كثير من النقَوش المسندية، ومثله اللفظ "يمن" الذي يعني الجنوب، ومن هنا جاء اسم اليمن. و"تيامن" الشيء أو الرجل اذا اتجه جنوباً، و"شأم" إذا اتجه شمالاً.
يعد النخيل أكثر الأشجار زراعة وثمرة؛ متنوع الألوان خاصة الأحمر والأصفر ويتميز بمذاقه الحلو حتى قبل أن ينضج.
وبعد النخيل تأتي شجرة المانجو، وفي الدرجة الثالثة تأتي أشجار الموز، والعنبة (البابو/ الفلفل) وكذلك الجوافة، ثم زراعة الذرة المختلفة ومنها الذرة الشامية وبعض الزروع الأخرى.
تسوق فاكهة البلح وكذلك الموز في أقرب المناطق لها من مدن الحجرية بعد الاكتفاء الذاتي داخلياً.
ويميز نخيلها أنها أشجار سامقة الارتفاع كأنها في السماء يزيد ارتفاعها عن ستين متراً، وهو مالم نجده في مناطق أخرى زرناها التي تزرع النخيل وتشتهر بها.
على الرغم من أنني تعرفت على كثير من مناطق زراعة النخيل في المملكة العربية السعودية أو في بعض مناطق تهامة اليمن الا أن ارتفاع أشجار النخيل في هذا الوادي كان لافتاً للغاية فتذكرت قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد). وقوله تعالى: (ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)..
في هذه المنطقة يتم تربية الجمال والضأن والماعز، وكذلك النحل.
يقول بعض أهلها إن بلادهم محسوبة منطقة بدوية، ولا ندري إن كانت حسبة تقوم على المعنى الحرفي للتسمية والحال أم لأن منطقتهم متخلفة ومعزولة ومحرومة من خدمات الدولة؟!
أحسن المهندسون صنعاً بلفت أنظار اليمنيبن الى هذا المكان بفتح شريان رئيس جديد يربط محافظات عدن ولحج وتعز ببعضها رغم طوله بعض الشيء عوضاً عن الطريق الوعر والخطير في هيجة العبد الذي لا يسلم من الحوادث المرورية المستمرة، والتي ينجم عنها خسائر بشرية ومادية كبيرتان، وتتعطل حركة السير في ذلك الطريق نتيجة لتلك الحوادث.
على جنبات الوادي شق هذا الطريق، والذي لن يسأم المارون عليه لسهولته اولا وللمناظر السياحية الخلابة للوادي ثانياً، فهو جذب للسياحة والترفيه الداخلي وكذلك الاستجمام والنقاهة. فمن يحل في هذا المكان يأبى أن يبارحه دون التشبع من جماله ونقاء هوائه وتمتيع ناظريه.
لهجة المواطنين هنا بين اللهجتين الجنوبية والتهامية وليست كبقية مناطق الحجرية فصاحة ووضوحاً، وهنا تذكرت توصيف الحسن الهمداني وهو يصف لهجات المعافر بقوله: "لهجات سافلة المعافر فيها غتم وعاليها أمثل". وبذكر الهمداني الذي كان كتابه "صفة جزيرة العرب" منهلاً للمعلومات وللمسح الجغرافي وقياس المسافات والذي ذكر فيه كثيراً من أودية تعز قبل أن تتسمى هذه المحافظة بهذا الاسم، بل ذكرها باسم مناطقها المعروفة كالصلو وسامع والمعافر وغيرها، إلا أن اللافت أن الهمداني لم يذكر هذا الوادي ولا مناطقه كما ذكر غيرها.
فالهمداني أساساً - مع كثرة ذكره للمناطق وقياساتها ودرجاتها وثمارها- لم يزر كل المناطق التي ذكرها في كتابه "الصفة"، بل كان يستقي معلوماته استقاءً من مطلعين أو من أصحابها أو من مصادر قبله، كما كان يفعل اللغويون وهم يتعرضون للقادمين من البادية الى حواضر الدول والمدن المركزية فيدونونها في كتبهم كملاحظات ومعلومات.
ربما وجدت في المنطقة أصالة اللغة المعافرية أو لهجاتها على الأقل لمحافظة الناس هنا على الالفاظ المعافرية القديمة التي تكاد تكون مندثرة من بقية المناطق الأخرى.
وبينما كان الظلام يرخي سدوله والليل يعسعس بقتامته كنا نتهيأ للمبيت في سيارتنا التي أقلتنا الى ذلك المكان في عمق الوادي بين كل تلك المناظر البديعة؛ اذ لا مكان نأوي فيه، فما كان من أحد الفتيان الا أن يحدثنا بلهجته المتميزة ونبرة البراءة تنطلق من بين شفتيه قائلا: "بتدجوا بالسيارة؟! " وهو يقصد: هل ستبيتون في السيارة؟! فلفظ "دجى/ا" في لغة المعافر تعني (المبيت).
شددنا عزمنا تلك الليلة أن نبيت في سيارتنا في عمق الوادي بين تلك الخضرة البهية وصوت السيل الخفيف، وأصوات نقنقة الضفادع وبعض الطيور على ضفتي ذلك السيل المتدفق في عمق الوادي.
بعد ساعتين من تلك اللحظة يبدو أنهم أخبروا أهالي القرية، فنزل أحدهم يترجانا المبيت في المسجد كما يفعل الكثير من زائري المنطقة، ومع أنني فضلت المبيت في السيارة في ذلك الجو المفعم بالحياة وبالبهاء الا أنني في الوقت ذاته كنت حريصاً كل الحرص على مخالطة أهالي المنطقة لأدون بعض ألفاظهم الأصيلة للغة المعافرية، كما فعلت في مناطق أخرى من الترحال والبحث والزيارة كي تكون الفائدة أعم وأشمل وإضافة المحصول الى المؤلف الذي أقوم بجمعه منذ عشرات السنين وهو معجم "لسان المعافر" قبل الطبع النهائي، والذي كلما هممت بطبعه تستجد فيه معلومات جديدة أحرص على إضافتها إليه.
تسمية "الزريقة" ذاتها لها مدلولات مختلفة في اللغة المعافرية، فقد تكون نسبة لشخص علم اسمه زريق المعافري، ونسبة الفرد زريقي ملحقاً بياء النسب في آخر التسمية، ويجمع على "الزَّرَّيْقة" بتشديد الزاي والراء مع الفتح وسكون الياء..
لكن للفظ مدلولات اخرى ف"زرق الشيء يزرق فهو زارِق" بمعنى: تسلل، ودخل في الشيء المثقوب، وابتعد، وأهل المعافر يسمون أشعة الشمس التي تدخل من ثقب او شقوق المكان "زارِقة".
وبالنظر الى طبيعة المنطقة ونائيتها في أضيق وأسفل مكان ينطبق عليها هذا الاسم والوصف، ولها من اسمها نصيب.
فهي بين جبال وعرة ونائية وشبه جرداء الا من شجرة السمر الشوكي وصخرية غير مسكونة، لكن واديها يعتبر جنة بحق، وربما من أفضل المناطق السياحية للنزهة والاستجمام.
حقيقة أبهر بصري وأنا أجد في الوادي شجرة هي شجرة الغريب الأخرى والتي يندر وجودها ولذلك سميت بهذا الاسم على أرجح المعلومات.
كنا كباحثين نوقن أن شجرة الغريب نادرة فعلاً لكن وقعت عيناي على شجرة أخرى لها مماثلة وفتية وغضة قبل أن تشيب؛ فشجرة الغريب الكبيرة والنادرة في منطقة دبع والتي تعد معلماً سياحياً اليوم لمحافظة تعز عمرها آلاف السنين، ولذلك هي كبيرة العمر وضخمة الجذر، فجذرها في بعض أضلاعه يصل الى حوالي عشرة أمتار، بينما شجرة هذا الوادي بالكاد يصل عمرها الى مائة عام أو أقل قليلاً.
من خلال قلة المعالم الأثرية في هذا الطريق وصعوبة المرور فيه بفعل التعرجات والمنعطفات الجبلية وطوله وسيوله المتدفقة يبدو أنه كان يستعمل طريقاً خلفياً واضطرارياً للقوافل، وربما للتهريب أيضاً، كطريق قدم وقوافل فقط وليس طريقاً رئيساً كبعض الطرقات الأخرى، رغم أن بعض التسميات والمحطات تقول العكس ك"الجمرك" و"المجزع" مثلا.
فمنطقة "الجمرك" تقع في الطرف الجنوبي للطريق، ويبدو أنه مستحدث من أيام الحكم العثماني المتأخر لليمن إبان مرحلة استشراء الفساد في الحكم حينما ضاعف الأتراك الضرائب وفرضوا واستحدثوا مناطق جمركية مختلفة لفرض الإتاوات المختلفة على قوافل التجارة وغيرها.
تسمى بعض الأماكن منذ بدايتها حسب وصفها كمنطقة "الملاوي/المليوي" مثلاً، وهي التي تبدأ عندها مرحلة التعرجات والمنحنيات في الوادي، ولكثرتها يستطول المسافر السفر، مثلما اطلق زاجل شعبي على وادي العجب في عزلة قدس من مديرية المواسط "وادي العجب كله ملاوي من دخل وسطه غوي"، لذلك يتجنب المسافر السفر عبره مفضلاً وعورة الطرق الجبلية واختصار المسافات.
فعلى الرغم من بهجة المنظر في ذلك الوادي الا أن هناك طريقاً جبلياً آخر وعراً بعض الشيء قريباً منه يمر من منطقة راسن المتصلة بالوازعية غير أنه أقل مسافة من وادي الزريقة، ويلتقي الطريقان عند حدود مديرية الشمايتين في أطراف منطقة "الزعازع" وصولاً الى بني شيبة الشرقية، التي توجد فيها محطة تجارية وخان للمسافرين ومدينة فرعية قديمة. ولهذه الأخيرة موضوع وكتابات ومعلومات أخرى نسردها في تناولة قادمة ومستقلة.