أتابع كثيراً مما تبثه بعض الفضائيات العربية حول ما يسمى الذاكرةالسياسية ، واستطيع القول إن الكثير منها يتم إعدادها كصحيفة اتهاملتجارب وأحداث منتقاة لأغراض ليس لها أي وجه من أوجه التنقيب في الذاكرةالسياسية بصورة موضوعية تحترم المستمع العربي ، وتمنحه فرصة الاستفادةوالتقييم ، بل تمارس عليه التلقين السلبي .ذلك الأسلوب هو صورة من صور القمع المعرفي الذي يمارسه الاعلام الموجه ،تمشياً مع دوره في ترويض العقل العربي على قبول الرواية الرسمية .وفي المساحة مابين مفهوم الذاكرة السياسية والاستجواب ، الذي يتم وفقاًللائحة اتهام يتم إعدادها سلفاً ، مساحة يرمح فيها خيل راقص على انغامالفيلم الأمريكي الشهير " زوربا اليوناني" لانتوني كوين .يتحول الشخص الذي "يعد" ويجري المقابلة إلى محامي إدعاء يستمد أسئلته منلائحة الاتهام المعدة سلفاً . وبأسلوب متمكن ، يحول السياسي الذي أمامهإلى مجرد شاهد ( إدعاء) على صحة ما حوته صحيفة الاتهام .تتحول المقابلة إلى ما يشبه البحث في الزاوية القلقة من الذاكرة ، ومايشبه الرقص في الزاوية المظلمة من التاريخ .أتمنى أن لا يحدث هذا مع تجربة اليمن الديمقراطية الشعبية ، كما تعرضالآن على قناة العربية . فنحن أمام شخصية قيادية محورية في تجربة الجنوب، وهو الاخ العزيز حيدر ابو بكر العطاس ؛ وهو دون شك احد مستودعات هذهالتجربة التي لا تحتاج سوى إعادة برمجة وتريب لمحتوياتها بمنهج هو أكثرمن غيره معرفة بتقنياته كمهندس .أقول هذا لأن الاخ حيدر ، بما له من مكانة ودور ، وبما يحتفظ به من مخزونومسئولية تاريخية تجاه هذه التجربة ، يستطيع أن يفرض إيقاع المقابلة ،بدلاً من ترك المبادرة للاسئلة الانتقائية التي يستعرضها المحاور بطريقةبدت وكأنها أستجواب شاهد ، لا إدارة نقاش مع قائد سياسي كبير ، لكلمتهمكانتها في تقييم هذه التجربة ، كما أن للفضاء الذي يعرض فيه رأيه معنىهاماً في استيعاب ملامح التجربة .لم تكن تجربة اليمن الديمقراطية مختزلة فيما عرضته أسئلة المقابلةوإجاباتها من نماذج لأحداث منتقاة حتى الآن ، كانت تجربة ذات فضاء واسعامتد من تحقيق الاستقلال الوطني ، وبناء دولة حديثة من إمارات وسلطناتومشيخات مجزأة ومتناحرة ، إضافة إلى مستعمرة عدن .. حققت هذه الدولة التيأقيمت على هذه الرقعة الواسعة من الارض كثيراً من المنجزات الاقتصاديةوالاجتماعية والثقافية . لم يكن سهلاً دمج التراكيب الاجتماعية والسياسيةالمتناقضة والهشة في تكوين سياسي واجتماعي متجانس ، وتكوينات إداريةللحكم المحلي ، إلا بجهد شاق ، وأحياناً تضحيات كبيرة . اعترف بها العالم، وتعامل معها باحترام ، وأقامت علاقات دبلوماسية مع دول العالموالمنظمات الدولية ، وكانت من أوائل الدول العربية التي احتلت مقعداً فيمجلس الأمن من مقاعد الأعضاء غير الدائمين ، وحققت جوانب كثيرة من الأمن، والعدالة الاجتماعية ، وبناء الانسان ، ومعهما توفير فرص العمل لكلالقادرين عليه ، وفتحت فرص التأهيل والتدريب والتعليم من الابتدائي حتىالجامعي مجاناً ، وانشأت نظاماً متكاملا للتعليم الفني والتقني وهو ماكان يسمى "البوليتكنيك" ، واهتمت بالثقافة والفن والرياضة والشباب وبناءالمعرفة ، وكفلت للمرأة حقوقها الاجتماعية والمدنية والسياسية كاملة ،وكان قانون الاسرة مثالاً للتقدم الاجتماعي على هذا الطريق ، وكفلالقانون الترقي الوظيفي حسب المؤهلات لكل المواطنين دون تمييز ، وأقامتنظاماً صحياً شمل كل المواطنين ، فاختفت كل الأوبئة الفتاكة ، وكان حقاًلكل مواطن أن يحصل على العلاج والدواء في مؤسسات الدولة العلاجية مجاناًبما في ذلك إجراء العلميات الجراحية الكبرى في الداخل أو في الخارج ،وأنشأت شبكة طرقات حديثة على طول وعرض البلاد بمساحاتها الواسعة ، وأنشأتالجسور التي سهلت المواصلات ، وأقامت السدود لخزن المياه وتوزيعهاللاراضي الزراعية ، ووفرت مياه الشرب النقية والكهرباء وخدمات البريدوالاتصالات ، وانشأت نظام للتجارة الداخلية استقرت وتساوت بموجبه اسعارالسلع الضرورية على مستوى الجمهورية ، وطورت ميناء عدن تطويراً شاملاً ،ووفرت الخدمات الساحلية للصيادين ، وانشأت المطارات المدنية في حضرموتوالمهرة وشبوة إلى جانب تطوير مطار عدن ، وأخذت تتدرج في بناء مساكنللمواطنين ، وواجهت الضغوط ، وقلة الموارد ، وحافظت على سيادتها ودافعتعن سيادة أراضيها .. وكانت هناك أخطاء سياسية واقتصادية ، بعضها كبير ،وهو أمر لا يمكن نكرانه ، ويحدث في كثير من التجارب في مراحل التحولالاجتماعي الحادة حينما تكون البنية الاجتماعية هشة أمام هذه التحولاتالتي يؤطرها نظام سياسي تنقصه التعددية الديمقراطية ، وتنتظم في إطارنظام قانوني وقضائي غير مكتمل وقبل أن يصبح نظاماً مشهوداً له بالكفاءة ،وتتحقق في ظل الموارد المحدودة وما تمثله من صعوبات لبناء الاقتصاد الذييشكل القاعدة المادية لهذا التحول ، وغياب دور القطاع الخاص بسبب الموقفالايديولوجي منه من ناحية ، وضعف بنيته هو الآخر من ناحية أخرى . ولاننسى هنا الحصار الذي قامت به شركات النفط الكبرى المهيمنة على المنطقةفي تعطيل اكتشاف النفط لأسباب منها ما يتعلق بأسواق النفط والعرض والطلبحفاظاً على الاسعار وأرباح الدول المنتجة .كان الطموح يصطدم بالصعوبات فيرتد إلى داخل المؤسسة السياسية في صورةخلافات حول المنهج السياسي والايديولوجي ، ولم تكن القاعدة الاجتماعيةالتي تشكلت بفعل هذه التحولات غائبة حتى في نقاشات القيادة السياسية أوالحكومة مما يشكل ضغوطاً قوية على اتخاذ القرار داخل الهيئة ، ناهيك عنالميراث الاجتماعي المتراكم والمرحل من مرحلة ما قبل الاستقلال .تجربة هذا البلد بكل، ما رافقها من إيجابيات وسلبيات ، لا يحوز للاعلامالعربي أن يقدمها بهذه الطريقة الانتقائية التي تستهدف أحداثاً بعينهاخارج سياقها التاريخي والموضوعي .أنا لا أقوال إنها تجربة بلا أخطاء ، لديها أخطاء كبيرة كما قلت ، ولكنليس من الصح أن تقدم على هذا النحو وكأنها مجرد صراعات ، ومؤامرات فقط ..حتى القائد الذي يقبل الحوار على قاعدة الوجه السلبي للتجربة سواء كناقدأو كمدافع لن ينظر إليه في النهاية إلا بأنه أحد مكوناتها أياً كانتطروحاته . والتاريخ له أدواته المحايدة بالطبع .وانا هنا لا أجادل فيما يقوله الشخص من رأي ، من حق كل انسان ان ن يقولرأيه فيما عاشه من أحداث ، لكنني أتحدث عن المنهج وخاصة عندما يتعلقالأمر بتجربة لا يمكن تقييمها بمثل هذه الانتقائية في استعراض أحداثبعينها بصورة مفككة وغير مترابطة وخارج مساراتها .اذا لم يتم تناول التجربة ، إيجاباً وسلباً ، بمنهج يضع الذاكرة السياسيةفي مسار صحيح ويجنبها الانسياق إلى الانتقائية التي تحاصرها في مساحاتضيقة من التجربة ، فإنه لا معنى لذلك ، وتبقى هناك تجربة انسانية تستحقأن تقيم بصورة أفضل ، وبأسلوب يتناول فضاءاتها التي لا يمكن اختزالها فيصحيفة اتهام لا تبحث عن غير الأخطاء والسلبيات فقط .لدي ثقة كبيرة أن تصحيح المنهج الذي يستعرض الذاكرة في الحلقات القادمةوذلك بتسليط الضوء على الفضاء الأوسع للتجربة سيبكون بمستوى الشخصيةالقيادية التي يتطلع الكثيرون لسماعها .٥٣ياسر اليافعي و٥٢ شخصًا آخرتعليق واحد٨ مشاركاتأعجبنيمشاركة