اللفة الأولى
في خضم الزحام يتصاعد الضجيج وترتفع الأصوات مابين مؤيدة ومعارضة اصوات من هنا وهناك ترتفع أكثر وأكثر حتى تتشابك العبارات وتتداخل الألفاظ ويسود اللغظ فلا يفهم معنى لكثير من العبارات المنطلقة من أفواه بعض الحضور.
العجوز الحكيم يحاول الإنسحاب والخروج من الزحام فقد ظهرت عليه ٱثار الإعياء والإختناق فكان الإنهاك باد على ملامح جسده وهو يسير متعثرا يحاول الإستناد على أجساد بعض الواقفين حوله ويشير بسبابته حتى يفسح له الطريق للمغادرة .
يغادر العجوز الجموع المحتشدة ويترجل بعيدا يجرجر عصاه الخشبية ذي الحدوة الحديدية كلما اتكأ بها ارتفعت طقطقة الحدوة كلما اصطدمت بجسم صلب والعجوز يترنح في خطاه يحاول الإسراع ليغادر المكان ومن بعيد في الجانب الأخر يقف الرجل الضخم شديد سواد البشرة بعينيه الضيقتين وأنفه الافطس بنظرات براقة ثاقبة يتابع تحركات العجوز السبعيني ذو الشعر الأبيض والبشرة القمحية وجفنيه المتدليان يغطيا جانب من عينيه الواسعتان المائلتان للزرقة التي تكشف مرض يعانيه في بصره المحتقنتان بالمياه الزرقاء.
يقترب الشيخ من الرجل الضخم الذي غالبا ما يصادفه في أوقات من يومه ويلقي عليه التحية غير مباليا بتفسير تواجده في كل الأماكن التي يتواجد هو فيها :
مساء الخير
يقف الرجل الضخم في صمت لا يحرك شفتيه الغليظتان بحرف فقط يرقب تحرك الشيخ المسن وتصرفاته . يبتعد الرجل العجوز وماتزال عيني الرجل شديد السواد تلاحقه حتى يغيب سواده عن مستوى رؤيته يرفع كفه ليضع كوفية كانت في قبضته الضخمة على هامته ويخرج من جيب قميصه الكحلي نظارة سوداء يضعها على عينيه ليزيد المشهد غمة وغموض ثم يستدير مغادرا المكان نحو الضفة الأخرى من الشارع الطويل للمدينة الثائرة.
يصل العجوز إلى الحي الذي يسكن فيه ويقترب شيئا فشيئا نحو منزله الصغير القابع في وسط الحي الشعبي المكتظ بالسكان الذي يبدو اليوم خال من أهله فلا يسمع ضجيج للمتخاصمين او صراخ للاطفال وهم يلعبون بكرة مصنوعة من الجوارب ربما تقترب منه وتقع على جزء من جسده فيعيدها إليهم بوجه بشوش:
إليكم الكرة أيها اللاعبون .. عليكم اللعب بعيدا عن طريق المارة
يسرع الصغار بملابسهم المهلهلة البالية لالتقاط الكرة وتنطلق المبارة من فورها دون اعتبار لنصيحة الجد العجوز.
يشد الخطى ليقترب من منزله المتواضع ولا يسمع لجاريه الشابين مستاجري الكوخ الخشبي صوت بعد إن اعتاد صراخهم الذي يتفاقم بالشتم والقذف ببعض ادوات المنزل وينتهي بضحكات وسكون ينمو عن طور من الصلح تغلفه الحميمية بعد العراك.
يقف أمام منزله يتهيأ لطرق الباب تندفع دفة الباب لتكشف عن تواضع المنزل المكون من غرفة واحدة من الطين والطوب وبعض الأخشاب وبعض مخلفات البناء وملحقات متناثرة يصرخ :
أين أنت ايتها العجوز.. الباب مفتوح
يتقدم و يتجاوز الباب الخشبي الضيق يقف متوسطا المنزل لا احد في الداخل وما أن يغادر الباب نحو الشارع تقبل زوجته العجوز وهي تصرخ :
ولدك في الشرطة على إثر عراك مع خصومه
يهمهم :
كم مرة قلت له يتجنب الأختلاط بهم
زوجته تسأله عن غيابه:
أين كنت منذ الصباح
بروح الدعابة كعادته :
قررت أن اشتغل بالسياسة فحضرت مظاهرة واحتشاد للمواطنين في الشارع العام الذي أكتظ بهم ووجدت أصغر اولادنا يقف خطيبا في الحضور وصوته يجلجل وكلما ارتفع صوته ارتفع تصفيف الحضور اعجابا بما يقول.
تقاطع العجوز حديث زوجها :
هل تفهم ما يقول
بفخر يجيبها:
ذاك الشبل من هذا الأسد
يطرد في حديثه:
البلد على اعتاب مرحلة حرجة
ينسحب عائدا نحو صفوف المجاميع المحتشدة ومن بعيد ما زال الرجل الضخم يرقب تحركاته بصمت وهو يجر عصاه ذو الحدودة الحديدية التي يتصاعد أزيزها كلما اشتدت خطاه وارتطمت بجسم صلب.
عصام مريسي