في مدينة محافِظة كهذه؛ من الغرابة بمكان أن يتوقف أمامك باص تقوده امرأة؛ ومع ذلك وجدتني أجلس في الكرسي الأوسط على مضض، فالمسافة البعيدة إلى مكان عملي، وكذلك توبيخات المدير التي تنتظرني إذا ما تأخرت؛ لم تكونا لتسمحانِ لي بإضاعة المزيد من الدقائق لمجرد انتظار باص يقوده رجل.
من خلف المقود؛ كانت الفتاة تصيح بالناس المتناثرة على جنبات الشوارع بجرأة مشوبة بالتردد:
- الكرّاع..الفيوش..صَبِر..لَحْج..
وكان أغلبهم يتطلع إليها بدهشة قبل أن يهزّوا رؤوسهم بالرفض.
أشار إليها طفل صغير بالتوقف، فأجلسته إلى جانبها في مقدمة الباص، رجل سبعيني أيضاً يتصبب العرق من جبينه أشار لها بعكازه، فركنت الباص جانباً. أطلَّ عليها الرجل من النافذة قائلاً:
-لحج؟
ولم يعطها فرصة لترد؛ إذ سرعان ما تحولت ملامح القلق البادية على وجهه إلى ملامح الغضب والسخط:
-فتاة تسوق!..أستغفر الله العظيم من بنات آخر زمن.
تمتم الرجل وهو يشيح بوجهه عن الباص بأكمله.
-إطلع يا والد.
قالت الفتاة وهي تحاول أن تتجاهل ملامح التنمر البادية على وجهه، غير أنه أعرض عنها وأشار بالعكاز إلى الباص التالي وهو يرغي ويزبد.
أنطلق الباص بسرعة، وخرست الفتاة ولم تعد تنادي بالناس كما كانت تفعل قبل قليل.
اختلستُ نظرة إليها، خمَّنت أنها تبكي، خاصة وقد انتزعت منديلاً موضوعاً على رفِّ الباص أمامها.
شعرت بالشفقة تجاهها، وفكرت أن أنوب عنها في الترويج، فرحت أصيح بالناس:
- الفيوش..صَبِر..لَحْجْ..
كنا قد تجاوزنا "الكرَّاع" حيث نزل الطفل، فلم يبقَ سوانا في الباص.
مرّت دقائق وأنا ما زلت أهتف بالناس حتى بحَّ صوتي دون أن أفلح في إقناع ولو زبون واحد بالركوب، فطلبت مني الفتاة أن أتوقف عن الهتاف.
حاولت أن أعترض غير أنها أوقفت الباص فجأة، والتفتت إليَّ بعينين دامعتين بدتا من خلف اللثام، وقالت بعتاب:
- تصوَّر أنك الرجل الوحيد الذي يركب معي منذ الصباح. حتى النساء، النساء أيضاً يعرضن عن الركوب في باص تقوده امرأة مثلهن، ويعدّون ذلك عيباً! يا لغباء هؤلاء الناس، ويا لقسوتهم وإجحافهم أيضاً!.
ثم انتزعت خزانة النقود من أمامها ورمت بها أمامي، وقالت بخيبة:
- أنظر كم هي قليلة! إنها حصيلة يوم بأكمله، لن تفي بالطبع بقيمة العشاء لشقيقاتي الصغيرات، لن تفي حتى بقيمة الوقود المهدور.
وقبل أن أسألها أو أبدي لها تعاطفي؛ تفاجأت بها تطلب مني أن أترجل عن الباص. حاولت أن أعترض بحجة أن وجهتي أصبحت قريبة، فصرخت غاضبة:
- قلت لك انزل، ولا أريد منك الأجرة، وبإمكانك أن تقل باصاً آخر إذا شئت.
- ليس قبل أن تخبريني عن السبب.( قلت لها).
فقالت وهي تتنفس الصعداء متصنعة الإسترخاء:
- لن أكمل هذا المشوار، سأعود إلى أبي، كان هذا مجرد تحدٍّ بيننا في ما إذا كنت أستطيع أن أعيل أخواتي إذا ما توفاه الموت (لا قدر الله)، فنحن ليس لنا معيل غيره.
وكنت قد أخبرته - بثقة عمياء - أنني أستطيع، ولكن سأذهب إليه الآن لأعترف له بفشلي الذريع.
ترجَّلتُ عن الباص والحيرة تعتصر دماغي، وقبل أن يصل إليَّ باص آخر، رحت أتتبع بعينيّ الباص الذي كان قد ابتعد عني مستأنفاً المشي في الشارع والإتجاه ذاتهما بتوجس، خاصة بعد أن قرأت تلك الكلمات المكتوبة على مؤخرته الزجاجية بملصق أبيض عريض (رحمك الله يا أبي).
وقبل أن يغيب عن ناظري؛ رأيته يسرع بشكل جنوني، ثم ينزلق فجأة، ويتشقلب عدة مرات قبل أن يرتطم بحاجز إسمنتي غليظ، مصدراً دويّاً هائلاً جعلني أتهالك في مكاني.