آخر تحديث :الأربعاء-25 سبتمبر 2024-01:31م
أدب وثقافة

"ألدورادو" لـ لوران غوديه.. حكايتان في بحر واحد..

الأربعاء - 25 سبتمبر 2024 - 10:41 ص بتوقيت عدن

"ألدورادو" لـ لوران غوديه.. حكايتان في بحر واحد..

(عدن الغد) متابعات:

الأدب الحقيقي هو الذي يُعنى بالإنسان. ينطلق من الأحداث لكنّ اهتمامه ينصبّ على صدى هذه الأحداث في داخل المرء، على عيشه وانفعالاته وانهياراته وتحوّلات المجتمع الذي هو جزء منه. هذه المعالجة تجعل الأدب ملتصقاً بالحياة، وهو اتجاه اتّخذه الأدب المُعاصر محاولاً الإحاطة بهواجسنا ومشاكلنا في عالم فوضوي وسريع. إنما برغم كمّ الأعمال المنشورة، خصوصاً في مجال الرواية، قليلة هي الأعمال التي ما زالت تُحدث تأثيراً حقيقياً.
من هذه الزاوية، يكسر الكاتب الفرنسي لوران غوديه (1972)، المشهد كأحد أكثر الكُتّاب المعاصرين المعنيّين بالإنسان، ليُعالج من خلال أدبه مواضيع إنسانية عديدة، واجتماعية شائكة، لا يبدو للوهلة الأُولى أنه باعتباره كاتباً أوروبياً ملزم بمعالجتها. وهذا ما تبدو عليه روايته "ألدورادو" الصادرة ترجمتها عن "دار المدى"، بتوقيع أيف كادوري وحازم عبيدو.
كتب لوران غوديه هذه الرواية عام 2006، بعد عامين على فوزه بـ"جائزة غونكور" عن روايته "شمس آل سكورتا"، التي يروي فيها حكاية أربعة أجيال من تاريخ عائلة إيطالية وعلاقتها بجذورها وأرضها المُشمسة، بلغة ساحرة تُشبه الشعر. لكنه في "ألدورادو" يكتب عن واحد من أكثر المواضيع حساسية، موضوع الهجرة غير الشرعية عبر البحر نحو أوروبا، طارحاً كثيراً من هواجسنا، عن الهوية، والانتماء، والأخوّة بين البشر؛ عن الرحيل حين يصير مصيراً لا فكاك منه، وعن قسوة المنفى والرحلة إليه.

يرى مهمّة الأدب في إنقاذ حيوات الذين لا يُحتسَبون

أحدَثت الرواية جدلاً واسعاً بعد صدورها وكرَّست اسم صاحبها ككاتب مُعاصر لا يُراوح في مكانه، إنما يجنح دوماً نحو مآسي عصرنا، نحو الأماكن التي يرى فيها إنساناً يُعاني. وسيظلّ لوران غوديه حسّاساً نحو هذا الموضوع ومُحَدِّثاً عنه في لقاءاته ومقابلاته منذ ذلك الحين، كما ستظلّ هذه الثيمات حاضرة في أعماله اللّاحقة، مثل رواية "أنصتوا إلى هزائمنا" (صدرت الترجمة العربية عن "دار المدى" عام 2018)، وكذلك في عمله الشعري الأول والوحيد "من دم ونور" ("أكت سود" 2017، لم يُترجَم بعد إلى العربية)، الذي يسترجع فيه ثيمة المُهاجِرين وثيمات أُخرى تبدو جميعها مثل صرخة يطلقها غوديه الشاعر المطعون في إنسانيته، في وجه عالم اعتاد كثيراً على أخبار القتل والفقر والبشاعة.

في رواية "ألدورادو"، معالجة غير متوقَّعة لموضوع الهجرة "غير الشرعية" عبر المتوسّط. يروي غوديه قصّتين تبدوان مختلفتَين لكنّهما تتقاطعان بطريقة مُدهشة. قصة سيلفاتوري بيراتشي، ضابط بَحرّية إيطالي يقود منذ سنوات فرقاطة في كاتانيا، جنوب إيطاليا، تجوب مياه المتوسّط لاعتراض قوارب المُهاجرين. وقصة سليمان، مُهاجر سوداني يهرب من وطن تُمزّقه الحروب والأمراض والفقر نحو أوروبا أحلامه. بعين بيراتشي الخارجية عن مشهد النزوح، وبصوت سليمان الخارج من عُمق المأساة، لا يُحدّثنا الكاتب عن القوانين بقدر ما يحدّثنا عن البحر الغاضب وهو يتقاذف قوارب تحمل بشراً في الظلام. ولا يُحدّثنا عن الجموع على القوارب، بل يصف وجهاً بعينه، أو نظرة مترفّعة كسَرتها الحياة، أو يُعطي صوتاً لنازح يُخبرنا بتفاصيل رحلته، يُعيد إليه فرديّته التي تسلبها منه المأساة.
للوهلة الأُولى نكاد لا نجد قاسماً مشتركاً بين بَطَلَي غوديه، لكن المعالجة الفريدة تجعلُنا أمام شخصيات متشابهة، تتداعى من الداخل، وتضيق بحياتها إلى حدّ الحاجة إلى مغارتها بحثاً عن مصير أسمى، عن خلاص ما، عن "ألدورادو" منشود. والألدورادو في الأسطورة هي مدينة من الذهب في أميركا الجنوبية، لطالما سحَرت المستكشفين واجتذبتهم. يُعطي غوديه التسمية للحلم الأوروبي الذي يُراود الأفريقيّين والشرق أوسطيّين حين تضيق بهم أوطانهم، ويظلّ وفيّاً لكتابته التي تُحاذي دوماً الأسطورة وتُضفي هذه النفحة الشاعرية الساحرة على مواضيع مُوجعة في عاديتها، ويُعيدنا إلى جوّ الملاحم التراجيدية الغنائية: "الألدورادو، كانت أيّها القائد تسكنُ في عُمق عيونهم، أرادوها إلى أن انقلبت زوارقهم. وبذلكَ كانوا أكثر ثراء منّي ومنك. أعماق عيوننا نحن جافّة وحياتنا بطيئة". وفيما سليمان يشقّ طريقه الشائك نحو أوروبا، بين احتيال المهرّبين وقسوة مخيّمات النازحين، يشعر بيراتشي بأن حياته تفلت منه وهو ينقذ البائسين من الموت في البحار للزَّجِّ بهم في السجون، وبأنه يفتقد لشغف حقيقي، فيغادر حياته بدوره، باحثاً عن مصير أفضل يجهله، ماضياً على زورق صيد، في رحلة معاكسة وغير متوقّعة، نحو "ألدورادو" غير متوقّعة، نحو أفريقيا.
أثناء قراءة الرواية، سنتذكر مقطعاً من مقدّمة ديوانه الأول، يبدو وكأنه خُلاصة تجربة الكاتب الأدبية: "أُريد شعراً يتحدّى النسيان ويُلقي نظرتَه على كلّ الذين يعيشون ويموتون في لامبالاة الزمن. الذين لا يُحتسَبون. الذين لا تُروى حكاياتهم. شعر لا ينسى القيمة القديمة الحقيقية للكتابة: أن نُنقذ حيوات من العدم لأننا روينا حكاياتها". مهمّة ينجح بها الكاتب تماماً في هذه الرواية أيضاً؛ إنه يروي قصص هؤلاء النازحين، يُعيد لهم اعتبارهم، يرسم لهم ملامح ويعطيهم نبرة صوت، يصف أحلامهم ودوافعهم ومعاناتهم، يتعاطف معهم إلى حدّ تخيُّل رحلة معاكسة لطريقهم المنشود، يتماهى معهم بهذه الحاجة إلى البحث دوماً عن خلاص، إلى مغادرة المرء لحياته أيّاً كانت القارّة التي يسكنها، وأيا كانت الأسباب التي تدفعه إلى هذا الرحيل.