هذه الحروف الثلاثة فقط، تكفي لتوقظ ذاكرة التاريخ من غفوتها الطويلة، عندما كان يفوح البخور ملء اتجاهات البحر، يقود السفن إلى كل موانئ العالم، ليقول للجميع: إن هذه المدينة وطن لكل الناس، دون أن تسألهم من أين أتوا، ولا من أي الجنسيات هم؟!
مؤسف هذا الخيال، كم يبدو عقيما، بعد أن كان في الماضي القريب - نوعا ما - ، حقيقة شهد بها جميع الذين عاشوا في عدن، أو زاروها يوما ما، واحتلت قصائد الشعراء وأغاني الفنانين ولوحاتهم ...!
نشر السفير مصطفى نعمان صورة لجزء يسير من واقع الحال في اليمن، ممثلا في عدن، ليعكس حالها المرير وحالتها البائسة، حالة تكشف غياب الدولة وقوانينها وأنظمتها وسلطتها ، صورة تغني عن ألف كلمة ، وتصرخ بصوت الحقيقة الغائبة، أو بالأصح، الحقيقة المغيّبة خلف أوراق التحليلات التنظيرية، وفي شاشات القنوات الفضائية، تقدمها شخصيات تقيم في الفنادق البعيدة..!
يعيش العالم اليوم في عصر الإعلام الرقمي حيث أفرزت ثورة الاتصالات والتكنولوجيا نمطاً إعلامياً جديداً يختلف في مفهومه وسماته وخصائصه ووسائله عن الأنماط الإعلامية التقليدية ، إذ أضحت الصورة -سواء كانت ثابتة أو متحركة- ، ناقلة للواقع، كاشفة للحقيقة، وباتت أكثر تأثيرا وأسرع انتشارا وأطول ثباتا في الذاكرة وأكثر قبولا من قراءة الكلمة المكتوبة بغض النظر عن فحواها -وهنا لا أقلل من أهمية الكتابة لكنني أتحدث عن مرحلة جديدة في تطور الإعلام وفضاءات التواصل .
إن الوعي بأهمية التوثيق بشتّى فروعه يعدّ ركيزة أساسية في قوة أي دولة، وتأثيره كبير في مجرى الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لأي مجتمع . فالتوثيق يساعد في إخراج المغيبين فكريا عن الحقائق من قمقم التعبئة الفكرية ضد المختلف معهم، وإن لم تصب هدفها بشكل مباشر، فلعلّها تبرز معاناة أبنائنا في اليمن للعالم، هذه المعاناة التي تجثم على صدور اليمنيين، تخنقهم حدّ الموت، لكنها غائبة عن المؤسسات الإعلامية في اليمن، غياب عجزٍ وربما غياب قصدٍ ، غيابٌ يستفزّ السؤال عن جدوى وجود السلطة من رأس هرمها حتى القاعدة ، ويضعها في مواجهة مع مسؤولياتها الدستورية والقانونية والشرعية وقبل ذلك كله مسؤوليتها الإنسانية ، وكيف تركت اليمن لتصل إلى هذه الحالة من الإهمال والضياع والموت المتربّص ..!
جميل أن يتواجد مصطفى نعمان بنفسه _كشخصية سياسية وكاتب ومحلل_ في واقع البلاد، يتلمس حالها، ويشرح الوضع عن كثب، بكل جرأة وصدق موضوعية، وحريٌ بكل الكتاب والإعلاميين والمحللين السياسيين التواجد على الأقل في المناطق المحررة لنقل واقع الناس وأحوالهم، ليحاولوا ستر عورة وزارة الإعلام، وملء بعضٍ من ثغرات غيابها وتجاهلها عن توثيق واقع الناس وأحوال البلاد التي كانت يوما ما بلادا سعيدة..!
يكتب السفير مصطفى الحقيقة الموثقة لتُدافِع هي عن نفسها، وتُواجه التضليل الإعلامي الذي يستخدمه بعض المتصارعين من أجل مصالحهم الشخصية الضيقة، لا مصلحة المواطن الضعيف ، وتكتسب كتابته أهمية موضوعية كونها من الواقع الذي يعيشه ويشاهده في كل زياراته المتكررة للمناطق المحررة في وطنه، كما أنها ناتجة عن معرفة دقيقة من خلال لقاءاته مع بعض المسؤولين اليمنيين والعرب والعديد من السفراء وممثلي الدول الغربية الفاعلة في المشهد اليمني ، وهذا حال من تواجد في اليمن ووثق كثيرا من واقعها البائس ورصد الظلم الواقع على الإنسان فيها ، وهذا مايميزها عن غيرها من التحليلات الافتراضية العقيمة، التي يعيش أصحابها بعيدين كل البعد عن واقع الناس وحياتهم التي لا علاقة لها بمفردة الحياة ومعناها..!
المنصب أخلاق..
المنصب انتماء للبلد..
المنصب ليس تصريحا فارغا من محتواه مهما كان ضجيج ألفاظه.
المنصب ليس تغريدة شجب أو تنديد أو شكوى
المنصب ليس خطاب تراشق للتّهم وقذفها على البعيد والقريب..
المنصب ليس هاشتاقات ومزايدات كاذبة واستعراضات في تويتر وليس تباكيا على الضحايا دون فعل شيء ملموس يحفظ لهم حقهم وكرامتهم..
المنصب شجاعة ومسؤولية كما تحلّى بها الأستاذ أحمد نعمان في كثير من المواقف السياسية التي كانت تصبّ في تطلعات اليمن واليمنيين إلى حياة أفضل ، وليس بخافٍ علينا قراره التاريخي بالاستقالة من منصبه كرئيس للوزراء حين وجد حكومته عاجزة عن الوفاء بمسؤولياتها والتزاماتها تجاه الشعب والوطن ،
وكان ابنه محمد نعمان - أحد اللاعبين الأساسين في تاريخ اليمن الحديث- وزيراً للخارجية في حكومة القاضي عبدالله الحجري ، قد استقال حين تولّى والده رئاسة مجلس الوزراء ، ليكون سباقا في إرساء أسس نظام سياسي متحرر من توارث المناصب، ولم تكن غريبة كذلك استقالة ابنه الثاني مصطفى نعمان من عضويته بهيئة التشاور لعدم وضوح حدود ومسؤوليات الهيئة .
ويالها من مفارقة، أن نرى الدولة اليوم عاجزة عن توفير أبسط حقوق الناس وأقل متطلبات العيش للمواطن المطحون ، وفي ذات الوقت يتسابق المسؤولون على توريث المنح و الوظائف لأبنائهم وأقاربهم ، ولا وجود للضمير في قاموسهم ، ولم تراودهم حتى نية الاستقالة بعد كل هذا العجز والفساد الذي باتت رائحته مثل جيفة تؤذي أنوف الجميع...!
نحن الشعب اليمني، كلنا، نستحق مثل هؤلاء الشرفاء الوطنيين الشجعان الذين يواجهون الخطأ بمنتهى البسالة والشجاعة، مهما كان مصدره، وموقع صاحبه، وأقل ما يفعلونه حين تطغى الضبابية على المشهد، هو الاستقالة بشرف، انتصارا للحق وتمسكا بقيم الأمانة وشرف الموقف، ولا ننسى دور العديد من الكتاب التنويريين الذين سخّروا عمر أقلامهم ومواقفهم للحق ووقفوا في صف الوطن، مدافعين عنه وعن الإنسان، بعيدا عن أزقة الانتماءات السياسية الضيقة وترفعا عن أي مكاسب شخصية قد يجدونها من أي طرف على حساب كرامة المواطن وحقوقه.
يالها من خاتمة تعيسة، لا تقل بؤسا عن هذا الواقع الموبوء بالفساد والموت، صارت أحلامنا بلا سقف، وصلنا إلى درجة من اليأس، أقصى طموحاتنا فيها، أن نسمع عن مسؤول قدم استقالته من منصبه لنضعه في أعلى مراتب النزاهة والشرف..!
لست بصدد الإشادة بسيرة حياة آل النعمان، فشهادتي فيهم مجروحة، لكنني كمواطنة يمنية اتابع بشغف كل ما يرد من أخبار من الداخل اليمني ، وكمخرجة موثقة أرصد كل خبر وصورة من واقع الحال الذي صار فيه الموت يتصدر كل حديث وحكاية ، وأتمنى نزول كل المسؤولين إلى الشارع، تماما، كما فعل مصطفى نعمان الذي جعلنا نعيش تفاصيل كثيرة ظلت مغيبة عن سبق إصرار وترصّد ..