| جمال حسن
طارد عازف العود اليمني الشاب، أحمد الشيبة (1990 - 2022)، حلمه الموسيقي إلى الولايات المتحدة الأميركية. لكن الموت باغته في ربيع عمره، إثر حادث مروري تعرض له أخيرًا في نيويورك. وبالنسبة لبلد تثقله التراجيدية، توارت واحدة من قصصه الجميلة بسرعة البرق.
ولد الشيبة في صنعاء في وسط غير فني. وبالصدفة أصبحت الموسيقى شغله الشاغل. وكتبت آلة عود، حصل عليها شقيقه، ميلاد فنان واجه كل محيطه الرافض وتغلب عليه. علّم نفسه بنفسه. وحين رأت عائلته أن شغفه بالموسيقى أصبح هوسًا، عارضت توجهه، إلى حد أن أكبر أشقائه حطم آلة العود. قال شقيقه الآخر حسين الشيبة، بصوت مكلوم، إن رفضهم اتجاهه إلى الموسيقى كان خوفًا من أن يتجه إلى حفلات الأعراس.
تصوّرٌ يعبّر عن النظرة المزدرية لـ الفن في اليمن. لكن الموسيقي الشاب واجه كل التحديات التي وقفت أمامه. كان يهرب من المدرسة بحثًا عن آلة العود. حتى إنه عمل في أحد محلات العود وسط صنعاء؛ قام بتنظيفها وضبط أوتارها، مقابل أن يسمح له مالك المحل بالعزف يوميًا عدة ساعات. اقتضى ذلك منه إضاعة ثلاث سنوات دراسية.
كانت الموسيقى تمتلك كل كيانه. واجه بها صعوبات جمة في بلد كان يسير نحو الاحتضار السياسي. وكافح دون مساندة من أحد، لم يمتلك سوى موهبته وإرادته، وسط بيئة افتقرت إلى قيم التعليم الأكاديمي.
حصل أحمد الشيبة على دعوة من أخيه إلى الولايات المتحدة. قبلها، وذهب إلى مصر ليستكشف إمكانيات جديدة. قال إنه في مصر شاهد إمكانيات مختلفة للعازفين تفوق كثيرًا ما يعرفه في اليمن. لكنه، منذ اللحظة الأولى، أبرز إمكانيات ميزته عن عازفي العود. مع هذا، ظل حافزه التعلم والارتقاء بقدرات احترافية.
في مصر، التحق ببيت العود العربي. يؤكد مدرسه إسلام طه، المدير الحالي لبيت العود العربي، أن الشيبة كان مختلفًا ومميزًا ومتطورًا، لافتًا إلى شخصيته الفريدة والجادة التي صبت جل اهتمامها في عملها، من دون الانشغال بما يبعده عن شغفه. يُضاف إلى ذلك اهتمامه اللافت بالتكنولوجيا؛ إذ عرف من خلالها تطبيقات متصلة بالموسيقى والصوت، كانت غريبة بالنسبة لكثيرين.
كان الشيبة قد تحدث، في لقاء سابق، عن أن رغبته في ردم الفجوة الواسعة ليبلغ المستوى الاحترافي الذي لمسه في العالم العربي، دفعه إلى الضغط على يده، ما استدعى تدخلًا جراحيًا لإحدى يديه، إضافة إلى الغرز التي احتاجتها يده الأخرى.
يقول الفنان وعازف العود اليمني محمد الهجري إن الشيبة تميز كفنان له معرفة واسعة بالموسيقى، خصوصًا بعلم التآلفات النغمية (الهارموني)، إضافة إلى معرفته بالتوزيع الموسيقي، والعزف على أكثر من آلة.
اعتمد الشيبة على أسلوب الـLooping في كثير من فيديوهاته. هذا الأسلوب يستخدمه الشباب حديثًا، ليمكنهم تسجيل جملة موسيقية بآلة معينة، ثم يبني تآلفات وإيقاعات بالآلات الأخرى، لتصنع موسيقى بسيطة وجميلة، وسهلة على أذن المستمع.
كان الشيبة عازفًا ماهرًا. تميز بعمل فيديوهات وتريندات عالمية، معيدًا توزيعها بشكل مبسط، وأضاف إليها آلة العود.
يوضح الهجري أن ما أضافه الشيبة بالنسبة للفنانين اليمنيين هو الخروج عن المألوف، إذ كانت له رؤية وأفكار مختلفة، غرضها تعريف العالم بآلة العود. ما يعدّه مصدر إلهام للأجيال القادمة من موسيقيين وعازفي عود في اليمن، وحافزًا لهم لينفتحوا على الثقافات الأخرى. وأن يأخذوا آلة العود إلى أبعد نقطة ممكنة في الاحتراف والعالمية، لافتًا إلى أهمية نشر تقنيات المدرسة اليمنية في العزف وتطويرها من العمق وبشكل مدروس، لإخراجها من ردائها التقليدي، مع الحفاظ على قواعدها الجوهرية.
وسبق لأحمد الشيبة أن وضع تلك الأسس عبر دمج تقنيات موسيقية يمنية بعناصر عربية وعالمية. وسبق أن سجل العديد من الأغاني العربية والعالمية بأسلوب بسيط، أبرز فيها آلة العود، مضيفًا إليها ضربات إيقاعية نفذها بنفسه، بتوزيع مبسط وجذاب. وحاول أيضًا أن يؤكد الاتصال العربي متخذًا من الموسيقى مجالًا واسعًا لذلك، عبر تتابع ألحان عربية من اليمن والجزيرة العربية، مرورًا بالعراق والشام ومصر والمغرب العربي حتى موريتانيا، من دون أن ينسى الجسر الأفريقي في الصومال وحيبوتي وجزر القمر.
يمثل رحيل أحمد الشيبة، حسب الهجري، خسارة كبيرة لكل فنان يمني، مضيفًا أنه لم يسبق لعازف عود يمني أن اجتاح العالمية عن طريق فيديوهات يصنعها بنفسه. وهذا، على حد وصفه، مجهود جبار ورسالة قوية بعيدة عن الفن التجاري، لافتًا إلى أنه صنع نجاحه بثبات وصمت، بعيدًا عن الدعايات الشللية التي نراها على مواقع التواصل الاجتماعي التي تغذي صناعة نجوم وهميين.
رحل الشيبة في الثانية والثلاثين من عمره، لكنه ترك كثيرًا في صورة مكثفة ستبقى إلهامًا لكل فنان يمني؛ إذ أثبت أنه بإمكانهم الوصول إلى أبعد مدى، لكن بالمثابرة والتعلم المستمر.
هذه الخسارة عبّر عنها اليمنيون بحزن في رثاء آخر لقصة جميلة ونادرة، كانوا يرغبون أن تستمر، لتغمرهم بالأمل وسط بلدهم الذي يعوم في الخراب. لكن المأساة أبت إلا أن تقول كلمتها النهائية في بلد ظل أحمد الشيبة يغنيه بعوده.