كتب/ فهمي غانم:
الأستاذة ماهية محمد عمر جرجرة الشهيرة باسم ماهية نجيب أيقونة عدن في زمنها الجميل ، كيفَ لهذا النورس العدني الحالم أنْ يصيغَ ثقافةً جديدة ويصنع عملاً مؤسسياً على قدرٍ من الأهمية الثقافية..خرج هذا النورس الجميل من مجتمع الحريم بل ومن المجتمع العدني كله..خطّت بيدها معالمَ الطريق للمشهد الثقافي لمدينتها الجميلة عدن زبدة مدن الشرق والعمل على الرفع من شأنها بين الأمم بخطى واثقة واعية.
ومن ركام التخلف والعيب والعادات البالية المعيقة وأطلال الماضي برزت ماهية نجيب بشكلٍ ملفت ومدهش وراقي وقدمت مشروعها على طبق من ذهب..هي صاحبةُ فعلٍ ثقافي وحضاري وتحوّل نوعي هي فتاةُ شمسان الأبية المناضلة من أجل التنوير التي أنشئت مجلتها الرائدة(فتاة شمسان).
يناير 60 كقناة توصيل لفكرها وفلسفتها في الحياة في بيىئة حاضنة تتعاملُ مع طفرة الإنتاج الثقافي والأدبي بقابلية معرفية وروح إنسيابية وملكات إبداعية مما أوجدَ لها بصمةٌ على الخارطة الكونية فشُدَّ إليها الرحال.
كانت عدن كلّها على موعد مع تاريخ جديد وفصل جديد من فصول التاريخ الذي صنعته الجغرافيا في مشروع المستقبل الذي أنهضته الكتلةُ النوعية من الماجدات والأماجد في كلّ أنساق الحياة وتفاصيلها هم الذين أعطوا عصارة تفكيرهم وعلمهم وعطاءاتهم وأمدوا شرايين الحياة بأكسير الحياة وبتلك الروح الجماعية والتفكير الناضج والإحساس الوطني العالي بالانتماء.
من هذه الأرضية الصلبة وهذه البيئة المليئة بكل أشكال التنوّع السياسي والثقافي والأدبي ومن هذه اللوحة البديعة وهذا الإرث الجميل والفسيفساء المتنوعة ظهرت ماهية نجيب كأوّل فتاةٍ عدنية تنشر صوتَ المرأة على مساحات واسعةً مليئة بالأمل والتغيير نحوَ الأفضل فظهرت قويةً متألقة بفعلها الثقافي وعملها المهني وكانت بالفعل نتاج تفاعلات المرحلة النهضوية لعدن في مداراتها المختلفة تلك النهضة التي مكّنت عدن من أن يكون لها مكاناّ تحت الشمس.
عاشت الأستاذة ماهية نجيب إحساس الصحافة في سنٍ مبكّر لأنّ حلمها تجاوز عمرها فتمدّدَ وعيها فوق صفحات الجرائد وخاصة جريدة النهضة للسيد المحترم عبد الرحمن جرجرة وهو شقيقها وتشربتْ منه أبجديات الفعل التنويري الذي تحاكي فيه الحاضر برسم المستقبل..أدركتْ أنّ صناعةَ الكلمة والوعي بها ونشرها والدفاع عنها صناعةٌ لها ثمنها ولها أيضا ثمارها الطيبة..ومن هنا أمسكتْ بقلمها وخطتْ لوحتها الجميلة عبر مجلّتها وعبر نضالها الإجتماعي اليومي في منتديات النخبة المثقفة فلم تستسلمْ للأغلال والقيود.
لقد إنتصرتْ للمستقبل قاومتْ إرثَ الماضي المعيق للحركة وعبرتْ بتجربتها زمنه وحلّقتْ فوق روابي وجبال وبحار مدينتها تنشر عبيرها الثقافي وزادها المعرفي وألقاها الإجتماعي فاستمتعَ الناس بما تكتبه هذه الفتاةُ النجيبة وتفاعلوا معها فزرعتْ فعلها التنويري في أرضٍ خصبة وانبتتْ شجرتها الوارفة (فتاة شمسان)..كمجلةٍ متخصصة نوعية ومهنية في اليمن والجزيرة وهي مغامرةٌ لم يسبقها أحدٌ لكنها كانت على قدرٍ كبير من التحدي الذكي لمواجهة إرتعاشاتِ اللحظة التي حاول البعضُ إثناءها وأعلنتْ عن نفسها كوجهٍ جديد قادم من ذالك النسيجِ المؤتلف وذاك النسل الإبداعي الممتّد عبر أجيال مضت وتلك الكيمياء الساحرة لمدينة النور عدن.
كان همها كيفَ تصل رسالتها إلى النّاس بأسلوبٍ سلس مرن يلقى القبول لديهم ويزيل طوطمَ الجهل والتقاليد والعادات البالية من أزمان غابرة وكيف للإنسان أن يوطّن نفسه على التكيّف مع حراك المجتمع وتفاعله الجمعي للمشاركة الإيجابية في إعادة ضبط الساعة نحوَ المستقبل.
إنًَ طرحَ معادلةِ الإيجاب والقبول وإتخاذها كمعادلٍ موضوعي للسلب والرفض هو من سرٌعَ بإتخاذه النجيبة ماهية قرارها للإنحياز للمستقبل وكان قراراً مصيرياً في حياتها بعد أن إستنفذَ المعارضون لها كلّ أسلحتهم لثنيها وطرحتْ نفسها كبديلٍ منافس لبعض الأصوات الرافضة و شريكٍ شريف لأصوات أخرى كانت مرحبةً بل ودافعةً لغرس مداميك فعلٍ ثقافي جديد تقوده إمرأةٌ على صدى النغماتِ الهامسة من الموسيقى وترانيمِ البيانو الذي تعلمته في مدارس وإرساليات عدن.
كتاباتُ تلك المرحلة التنويرية ومنها كتابات الأستاذة ماهية نجيب عملت على تفكيكِ الأساسَ الفكري والفلسفي للبيئة الحاضنة لبعض الافكار والتقاليد والعادات البالية المناوئة في بنية المجتمع والتي أصبحتْ معيقةً وغير ذي جدوى.. فكان لتلك الكتابات أثرها في تجريف هذه البيئة الحاضنة للثقافة المسكونة بالماضي وإحلال منظومة ثقافية أخرى هي إمتداد لفكرٍ عصري تنويري أسهم في تشكيل المنطقة العربية ثقافيا وسياسيا.
إذن أصبح هناك خطان متوازيان يتحركان لفرضِ أهليتهما الفلسفية والثقافية خطٌّ يشدّكَ إلى الماضي بتموضعه الثابت وبإعادة تدوير تلك الكتابات التي تعيش فيه ولا تريد مغادرته وخطٌّ يتلمس طريقَ المستقبل فالماضي عنده عبرة وقيمة لها دلالات معنوية ورمزية تاريخية يُستفاد منه ويؤخذ منه مايبرّر الحاضر ويفعّل المستقبل لذا فقداحتدمتْ المعركةُ بين الطرفين ودارتْ نوعٌ من المرافعات الثقافية والأدبية والمساجلات الكلامية وحتى السياسية على المنابر والصحف والمجلات حتى وصل بعضها إلى المحاكم للفصل فيه عبر المرافعات القانونية وهذا شئ طبيعي في مجتمعٍ ناهضٍ يتمتعُ بشئٍ من النفس الديمقراطي والحرية النسبية.
لم تكتبْ ماهية مقالاتٍ سرديةً وقصصاً من حكاوي عصرها بل إندمجتْ مع هذا العصر وفعّلتْ قنوات الإتصال معه وطرحتْ عناوينٓ كبيرةً لمواضيع أكبر تنشدُ من خلالها العدالةَ بمعناها الإنساني الغير منقوص فنادتْ بالتعليم وهو أسُّ المعضلة الإجتماعية وخاصة تعليم المرأة التي كانت تعتقد أنها ضحيةٌ لمجتمع يفرضُ ذكورةً صارخةً بل ويقنّن لها في الوقت الذي تظلُّ فيها المرأة حبيسة صورةٍ نمطية وفعل مكرّر وحصار غاشم تمنعها من الخروج من قمقم العادات والتقاليد التي تلبستْ بها وأصبحتْ جزءً من شخصيتها السالبة وبهذه الصفة إرتقتْ ماهية إلى مصاف المناضلة الواعية التي تجاوزت الشبكة العنقودية من الوهم المصطنع لثقافة الإستسلام ومزّقتْ بذالك خطوطَ الطول والعرض لمرحلة زراعةِ اليأس وحطّمتْ حدودَ الفصل القسري بين المرأةِ والمجتمع وناضلتْ من أجل تفكيكِ حالةِ التمايز المصطنع وعلى هذا النسق وبتلك الشفافية طوّرتْ الكاتبة الموهوبة ماهية نجيب أدواتها واستخدمتها بعقلانية كشفتْ فيها عوراتِ المناطق المظلمة فاشاعتْ النورَ فيها وكانتْ بحق نصيراً للمرأة ولقضايا التعليم وتصحيح البيئة الإجتماعية من رواسب العقد والتشظّي.
كانت الكاتبةُ ماهية نجيب لاتريد كإمراة أن تضع عقلها في غرفة الإنعاش لتعلن موته السريري أو تخمد جذوته بل حقنته كأنثى بوعي اللحظة الفارقة في المشهد المنظور أمامها أرادت أن تقدم شيئا مفيدا لمجتمعها لم تندبْ حظّها وحضَّ جيل باكمله بل كانت ترى أن في نهاية النفق كوّةً من الضؤ ينبعث منه شعاعُ قابلٌ للتمدّد والإرتخاء وبالتالي عليها ألاّ تحبسَ أنفاسها بل عليها انْ تفتحَ مساماتِ الحياة كي تصله وتوسّع من دائرته وتنسجُ منه ضؤً للنهار.
حلقت في فضاءات مختلفة وعبر أسفارها المتعددة تعرفت على الخارج الذي أضاف إليها ثراء وعمقا وروحا جديدة إلى تجربتها وكيف لا وقد قابلت الزعيم جمال عبد الناصر على رأس وفدٍ نسائي من عدن فمثّلَ هذا رمزية شديدة الأهمية ومدلول تاريخي وسياسي ومصدر إلهام نوعي لها ولفتيات عدن ونساءها بل وللمجتمع كلّه وهو يعني فيما يعني إحترام أصيل لدورها الريادي بين النساء.
لابدّ الإشارة إلى أنّ تموضع المفهوم الاجتماعي في مدينة عدن خلال الخمسينات والستينات مع ماناسبه من حراك ثقافي وأدبي تولّد مع الإنفتاح على العصر وحالة الحرية النسبية في المستعمرة عدن وقد إنعكست كتابات تلك المرحلة على خلخلة الظاهرة الإجتماعية بصيغتها السالبة والمرتبطة بالعادات والقيم المعيقة وتفكيكها من الداخل وكشف مابها من عوارٍ لإعادةِ تخليقِ مفهومٍ جديد مغاير يساعد على خلقِ إستقامةٍ منهجية للتعامل مع تلك العادات وفقاً لطبيعة التطّور الملموس في مدينة عدن الذي تزامنَ مع فكِّ الإرتباط بين عدن والهند وقطع ذالك الحبل السري الذي كان يربطها بالهند وإتصالها مباشرة مع وزارة المستعمرات البريطانية في نهاية الخمسينات وقد أسهم هذا في تحريك تلك الكتلة الصلبة من القوانين والمفاهيم البالية والمعيقة وسمحت بمزيد من الهامش عبّرَ عنه ماشهدته عدن من إنتخاب المجلس التشريعي وإنتخابات المجالس المحلية فارتقتْ فيه ادواتُ الفعل الإيجابي على نحو مغاير لما كان يحدث كما أنَّ الحراك السياسي و المطالب الشعبية والنقابية رفع من ترمومتر الحالة الوطنية بشكل عام وانعكس ذالك على بلورة تصورات جديدة للنهوض على كل الاصعدة لهذا نستطيع القول أن عدن أنتجتْ مايمكن أن نطلق عليه نظاماً للحوكمة بمعايير إنسانية كان هو الأساس النظري للحياة السياسية والإجتماعية للمحروسة عدن.
الكاتبة الصحفية ماهية نجيب استفادت كغيرها من هذا الظرف الموضوعي وتحقيقا لرغبتها الذاتية أطلقت مشروعها الصحفي في المدى المحلي بعد أن كانت تكتب على إستحياء في صحف عدن البارزة كفتاة الجزيرة والنهضة واليقظة والأيام بإسم مستعار (بنت البلد) وبعناوين شاردة وافكار هائمة عملت على تأطيرها بصحيفتها الرسمية (فتاة شمسان) وبشخصيتها الحقيقية والإعتبارية الجديدة ككاتبة ومثقفة اختارت الطريق الصعب والمشاغبة اللذيذة طريق صاحبة الجلالة (الصحافة).