آخر تحديث :الخميس-19 سبتمبر 2024-07:19م


الشاعرمحمد الجعمي(شاعر أنيق بروح شفيفة)

الأربعاء - 18 سبتمبر 2024 - الساعة 07:12 م

د. سمير الشميري
بقلم: د. سمير الشميري
- ارشيف الكاتب


مُدخل :
محمد الجعمي.. صوت شعري وأدبي أنيق ، وصاحب روح شعرية شفيفة ، حسن الصوت ، حلو الشمائل ، يعيش في قلب الحياة بحس مرهف ووجدان ذكي ، يرفض القوالب الشعرية الجامدة ، ويميل لجمال الصورة وبلاغة الإيجاز .
يسيطر بأتقان على آليات كتابة القصيدة ، ويحمل في قلبه ووجدانه جراحات المجتمع وانكساراته ، ويتسم بقوة الأسلوب وجزالة الجمل ووجيز الكلم والوحدة الجمالية في الشكل والمضمون .
تسكنه القصيدة في ضجة النهار وسكينة الليل ، بالشعر يداوي جراحاته ويطير عبر أجنحة الكلمات يحلق في الفضاء الشعري الرحيب بخيال فني بديع ويقبض على الضوء بين أصابعه .
( كنت أغني كما يغرد الطائر ..كما ينساب خرير الماء ..كما يتنفس الإنسان ) " لامارتين ".
(الكتابة بالنسبة لي تعبير عن عشقي للحياة ..وعندما أكتب أشعر أنني في لحظة الحيوية الكاملة ، وعندما لا أكتب أشعر وكأنني لا أعيش كأن طاقاتي الحيوية مغلقة ) " عبداللطيف اللعبي " .
وأحسب أني لست بحاجة للتذكير ، أنه صدر للشاعر محمد الجعمي ديوانا شعريا موسوم ب" على بعد حلم " عام ٢٠٢٢ م ، يحتوي على ٥١ قصيدة مبسوطة في ١٣٦ صفحة .
١- القصيدة الجميلة :
تعجبني القصيدة الجميلة سواء كانت قديمة أو حديثة ، وتنفر نفسي من القصيدة الرديئة سواء كانت قديمة أو حديثة .
وهناك كثرة كاثرة يكتبون في الفضاء الشعري والأدبي بلا مواهب مما يؤدي إلى التشوش والتموجات ( لايموت الأدب عندما لا يكتب أحد ، وإنما يموت عندما يكتب الجميع ) " نيكولاس عوميز دافيلا " .
القصيدة الجميلة تهز الوجدان بمشاعر حارة وعواطف عميقة وبلمسات غاية في الرهافة يصعد من جوفها صوت الصدق والرهافة والأنوار وتحمل لفي طياتها الكثير من السحر والنظارة بأسلوب عذب وبيان ساحر ، ففي قصيدة يقول فيها محمد الجعمي :
لو تجودين بوصل ليلة
ياليالي الأنس في بحر العرب
ويفوح العطر نشوان كما
فاح يوما في سمانا وانسكب
رقصت في الليل أطياف المنى
لمعت في الرمل أمواج الذهب
ياصدى الأشعار في ليل الأسى
ارسل الألحان نشتاق الطرب
وفي قصيدة أخرى يقول :
كم أيقظ السهد في أعماقنا ولها
وهيج الوجد غيما في مآقينا
مازال للعيد في أحداقنا صور
وفي لياليه أقمار تحاكينا
نشتاق ياعدن الأحلام قافية
تحيل هذا المدى وردا ونسرينا
فهل يعيد المنى مافات من زمن
أو يرجع الشوق ياليلى ليالينا
٢- الشعر ورقائق الكلام :
- لماذا عندما استمع إلى أشعار محمد ناصر شيخ الجعمي أتطرب وأشعر بنشوة غامرة تبسط القلب وتقطع الوحشة ؟
- لماذا يهزني صوته العذب المترع بالثراء والدفء الفني ، ويجرني إلى محراب الشعر وكثافة الإبهار ؟
- لماذا تعجبني طلاقته الشعرية ومقابلاته في القنوات الفضائية و سائل الاتصال الاجتماعي ؟
- لماذا اشعر ببهجة أُنس وأريحية عندما اقرأ رقائق الكلام في أشعار محمد الجعمي ؟
الشاعر محمد ناصر شيخ الجعمي وجهه بلا غلاف ولا مساحيق ، أو كما قال الأديب والشاعر /جبران خليل جبران ( نحن أصحاب الوجه الواحد لن نرتدي الأقنعة ولو كلفنا الأمر أن نخسر الجميع ) .
الشاعر محمد الجعمي لايجيد الطنطنة الشعرية الجوفاء ، فهو ليس قصير الباع في الشعر ، بل صاحب حس رفيع وذوق أنيق ، نجد في شعره العمق والنطاسة واللذة الفنية والحسية والجودة الأدبية الرفيعة ، له قدم راسخ في الشعر وضرس قاطع في الخيال ، وليس له مطمع في المجد والشهرة الهزيلة والهرطقات اللفظية ، وكأن لسان حاله يقول كما قال الشاعر عبدالرحمن فخري :
(أنتم شعراء بالجملة ،
أما أنا فاضيق حتى بلقب "واحد" ) .
محمد الجعمي- يسكب شعره في أنفاسنا ويثري وجداننا ببلاغة اللفظ وبراعة المعنى ، يهذب حواسنا بجمال الذوق والوصف والتصوير وبلغة شعرية مهذبة وبذخيرة لغوية وتذوقية وتعبيرية راقية ، لا يتكلف في شعره ، ولا في نحت كلماته ، كأنه قرأ بعمق نصيحة إبن المقفع الذي قال :
( إياك والتتبع لحواشي الكلام طمعا في نيل البلاغة فإن ذلك هو الغي الأكبر) .
جذبني الشاعر محمد بملكته الشعرية وبلاغة لسانه وقدرته الفذة في الغوص في الأخاديد العميقة والقدرة الثاقبة على البصر والابصار .
جذبني بشعره الجميل وسكراته الروحية وقدرته على إخراج العواطف الكظيمة من أعماقه الحارة ، جذبني بقوة طاقته الشعرية المترعة بالزخم والتعدد وإعلاء قيمة الوجدان ، والقدرة الفذة على التصوير والتجسيد ، ومزج العنصر الواقعي بالخيالي وتصوير خلجات النفس :
كَمْ بَاحَ قلبُ المُعَنَّى بالأسَى وَهَفَا
وراحَ يَسْتَعْطِفُ الجُدرَانَ و الغُُرَفا
ايطل مِنْ شُرْفَةٍ للأنْسِ ظَامئةٍِ
وَخَافِقٍ مُدْنِفٍ بالشّوْقِِ كَمْ هَتَفَا
يُسَائِلُ الدّارَ عَنْ أخْبَارِ مَنْ رَحَلوا
يُعَانِقُ الوَرْدَ وَ اللّبْلابَ وَ الخَزَفَا
(يبكي ويضحكُ لا حزناً ولا فَرَحا)
وَ الذّكْرِيَاتُ ضَبَابٌ يَلثَمُ السّعَفَا
يا غُرْبَةَ الرّوحِِ هل للحبِّ من سفرٍ
شَابَتْ عهودُ الصِبَا وَاسّاْقَطَتْ أسَفَا
ما زالَ في الليلِ مِنْ أنْسَامِهم ُعبقٌ
اشتاقُ بَعْضَ الّذي قَدْ مَرَّ وانْصَرَفَا
على الدّرُوْبِ لنَا في كُلِّ نَاحيةٍ
ذِكْرَىْ وَكَمْ أدْمَنَتْ أحْدَاقُنَا الشّغَفَا
مرابعٌ شَهِدَتْ أيَّامَ صبْوَتنَا
ولَمْ تَزَلْ لحَمَامِ الشّوْقِ مُرْتَشَفَا
كَمْ دَاعَبَ الليلُ مَا نَخْفِيْهِ مِنْ وَلَهٍ
والبَحْرُ كَمْ وَشْوَشَتْ أمْوَاجهُ الصَّدَفَا
يصْحُو الفُؤادُ عَلى تَرْنِيْمةٍ سَقَطَتْ
قَبْلَ النّعاس وَلحْنٍ في الضّلُوْعِ غَفَا
ويسألُ اللهَ صَبْرًا كُلّمَا عَصَفَتْ
نَوَائبُ الدَّهْرِ بالجُرْح ِالّذي نَزََفَا
كلّ الذّيْنَ أضَاءَ النّوْرُ في دَمِهمْ
لمْ يَبْلَغُوا الحلمَ لَكِنْ عَانَقَوا الهَدَفَا
الأرْضُ لو نَطَقَتْ أجْدَاثُهَا صَرَختْ
هَيَ الحَيَاةُ وَ هَذَا دأبُهَا وَ كَفَى
٣- حيوا الجزائر :
الشاعر محمد الجعمي مبدع بقريحته وخياله الشعري وبسرده التصويري الرفيع ، مبدع بتماسكه الفني واللغوي والمنطقي ، وبترانيم أحاسيسه الفنية .
في نصوصه الشعرية تلمع إضاءات إبداعية تحرك العقل اللغوي وتتميز بالرهافة والبصيرة وبصور عابقة بالصفاء والمتانة .
ما أروعك عزيزي محمد ! - حين تكتب عن غزة-فلسطين ، حين تكتب عن وطننا العربي الكبير ، حين تكتب عن الجزائر ( لم تخطئ لجنة امتحانات الثانوية العامة في الجزائر حين اختارت قصيدة "حيوا الجزائر" ضمن امتحانات الثانوية العامة البكالوريا في العام الحالي ٢٠٢٤م) :
حَيُّوا الجَزَائِرَ حَيُّوا الشَّعبَ والبَلدَا
وَعَانِقُوا في ثَرَاهَا المَجْدَ وَ الشُّهَدَا
حَيُّوا المغاويرَ وَ الْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ
تغازلُ النُّورَ والفَجرَ الَّذِي اِبْتعَدَا
تطاولَ اللَّيلُ و الأرجَاءُ مُظْلِمَةٌ
وقَدْ تَمَادَى الأسَى في الأرضِ واحْتَشَدَا
تَمُّوزُ" مَا جَفَّ ملحُ الأرضِ في دَمِنَا
ومَنْبَعُ الْفَخْرِ يا "ديغولُ" ما رَكَدَا
لا يُدْرِكُ النَّصرَ مَنْ خَارَتْ عَزِيمَتُهُ
ولا ينالُ العُلَا إلا الَّذِي كَدَدَا
مِلْيُونُ شَمسٍ مِنَ الأَجْدَاثِ مُشْرِقَةٌ
وَ كُلَّمَا رَفَّ وَعْدٌ للفِدَى اِتّقَدَا
غنيتُ للمَجدِ وَ "الأوراسُ" واثِبَةٌ
كفارسٍ كُلَّمَا رَامَ العُلَا نَهَدَا
في نكهةِ البُنِ مِنْ سَمرَاءِ ذِي يَزَنٍ
هذا الحنينُ المُقَفَّى بالشَّذَا وَفَدَا
لمحتُ "وهرانَ" تزهو وَهْيَ "باهيةٌ"
تُراقصُ الرَّملَ والأمواجَ والزَّبَدَا
كأنَّ غَرْناطَةً بالمجدِ مُتْرَعَةٌ
عِنْدَ الأصيلِ يُنَاجِي "طارقُ" الأَمَدَا
نُورٌ مِنَ اللهِ عَمَّ الأرضَ فابتسمتْ
لهُ الحياةُ وَمِنْ قلبِ الدُّجَى ولِدَا
أَحِنُّ للنيلِ يا "وهرانُ" بي شَغَفٌ
إلى الْفُرَاتِ وَكَمْ غَنَّى الهَوَى بَرَدَى
يا شامُ بي لوْعَةٌ حَرَّى وبي ظَمَأٌ
لا الماء يَجْرِي ولا الظَّمْآنُ قَدْ وَرَدَا
مِثْلُ الغَرِيبِ وَقَدْ طالَ السُّهَادُ بهِ
فِي هَدْأَةِ اللَّيْلِ لا صلَّى ولا رَقَدَا
على القِبَابِ حمامُ القدسِ واقفةً
ورافدُ الشِّعرِ يا صنعاءُ ما نَفَدَا
الذِّكرِيَاتُ على الشُّطآنِ غافيةٌ
وَ زَورَقُ الليلِ بالأحلامِ كَمْ شَرَدَا
يَا "بيلسانُ" شموعُ الحبِّ مَا اِنْطَفَأَتْ
ولاعجُ الشُّوقِ للأوراسِ مَا خَمَدا
عُرُوبَةٌ بِعُرَى الإيمانِ عامرةٌ
وَ نَخْوَةٌ لا تَرَى في صِدْقِهَا فَنَدَا
على طريقِ الْهُدَى سَارَتْ مُوَاكِبُنَا
يَا رَبُّ (هَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا)
٤- الحسد والمكابرة :
ما يستلفت النظر ، أن الشاعر محمد لايحب المحافل والمجامع الدعائية والطنطنات الغوغائية التي تمحق روح الإبداع بأسلوب قبيح ومرذول ، إنه يجيد فن التجاهل ويتحمل وخز الشوك ، ويمتص الضربات ( الناس نوعان ، أحدهم يراك طيب فيحبك ، وآخر يراك طيب فيؤذبك) "برنارد شو " . لم يخطر بباله قط وضع الكوابح والمصدات للآخرين ، كما يفعل البلداء ، إنه صاحب قلب وديع يحب الناس ولايسير في مواكب النفاق ، ولا يضرب طوقا من العزلة على الفطراء وأهل الذكاء والكيس ، إنه يكره الحسد والمكابرة واللجاجة ، حيث يقول في قصيدة مترجمة إلى اللغة البرتغالية :
قلبي مع الحساد كم أوصيته
بالصبر مهما جارت الحساد
علمته أن التغافل راحة
وسلامة ومودة وسداد
عانقت بالأشعار أنوار الضحى
ودعوت ألا تضرم الأحقاد
ومضيت لا ألوي على أحد ولو
ضاقت بأحلام الرجال بلاد
ولكم ترنم بالفضائل شاعر
ونأى بنيل المكرمات جود
وعلى نفس المسرب يقول أبو عثمان عمرو الجاحظ :
( الحسد أول خطيئة ظهرت في السموات ، وأول مصيبة حدثت في الأرض ) .
ولست أخطئ إذا زعمت ، أن الشاعر محمد الجعمي سكن في بوتقة الأصالة والعراقة بنبل رفيع ومرؤة عالية وداس بقدميه دروب الشوك والعقبات وتجشم المتاعب والبلوى والمحن ، وأنه يقف في سكة واحدة مع الإبداع والمبدعين وليس على وئام مع أصحاب الأحاسيس الصلدة كسيحي القريحة والخيال ، وكأن لسان حاله يقول كما قال الشاعر :
ياباري القوس بريا ليس يحسنه
لا تظلم القوس أعط القوس باريها