آخر تحديث :الثلاثاء-17 سبتمبر 2024-03:17ص


المتنبي الشاعر .. ذلك المختلف النادر

الأحد - 08 سبتمبر 2024 - الساعة 08:53 م

رعد امان
بقلم: رعد امان
- ارشيف الكاتب





أنامُ ملءَ جفوني عن شواردِها
ويسهرُ الخلقُ جرَّاها ويختصمُ

بيت من الشعر خالد، قاله ذلك العبقري الفذ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما يقولون، وما زال يشغلهم حتى اليوم . لا أدري في الحقيقة أية مبالغة ( مستحبة ) في بيت المتنبي هذا ، وأية ( بساطة ) لا يستطيعها غيره من الشعراء، تلك التي تصعد به إلى مكانة عالية ينظر منها إليهم نظرة العارف بمكانته ومنزلته، الواثق والمؤمن بموهبته وشاعريته إلى الحد الذي يجعله منفرداً في تلك المرتبة السامية التي لا تتسع إلا له وحده . والحق أنه يحق للمتنبي ذلك، بشهادة الكثيرين ممن لهم علم ودراية بالشعر من البلغاء والفهماء وأئمة اللغة والأدب، وشُرَّاح ديوانه عبر العصور، لأنه باختصار شاعر مختلف، واختلافه نادر وفرادته لا تشبه غيرها، وقوة أبياته بل وكل شعره صار مضرب الأمثال في جريانه على الألسن، ومن هنا يصبح هو شاعر العربية الأول بلا منازع .
أعود الآن إلى بيته الذي ( ينام فيه عن شواردِها ) ، هذا البيت العجيب كان موضوع نقاش بيني وبين أحد أصدقائي، وهو شاعر وناقد له نظراته الثاقبة ورؤاه النافذة إلى أكناه موضوعات شعرية وأدبية حساسة ومعقدة، ففي سياق حديثنا استشهدت ببيت المتنبي هذا، فإذا بصديقي الناقد يقول معلقاً : إن هذا أكذب بيت قاله المتنبي ! هنا تحول حديثنا إلى وجهة غير متوقعة، فقد استغربت قوله وسألته : لماذا وكيف يكون أكذب بيت ؟! فقال على الفور : لأن المتنبي كان في حياته كثيراً ما يدخل في صراعات ومناكفات ويختلق المشاكل مع غيره من الشعراء بقصد التعالي عليهم وتحقيرهم، والدليل على ذلك ظاهرة التصغير التي كان مولعاً بها..( أحيمق، شويعر، لويمع وغيرها ) وقال : لقد كان المتنبي يا صديقي متعالياً على الناس والشعراء وحتى على الشعر نفسه، ألم تقرأ قوله :
وفؤادي من الملوكِ وإنْ كان
لساني يُرى من الشعراءِ !
وظني أنه بغروره هذا وكبريائه المقيتة التي أورثته المهالك وقرَّبت نهايته كان يعالج عقدة النسب لديه، فهو ابن سقَّاء كان يبيع الماء في الكوفة، وقد قال فيه شاعر :

أيُّ فضل لشاعر يطلبُ الفضلَ
من الناس بكرة وعشيَّا
عاش حيناً يبيعُ في الكوفة الماءَ
وحيناً يبيعُ ماءَ المُحيَّا

قلت لصديقي : لم تقنعني بتبريرك ادعاءك أن هذا أكذب بيت قاله المتنبي، ثم ما علاقة الثقة والاعتداد بالنفس بهذا الذي تدعوه كذباً ؟ قال : لأنه ليس من المعقول أنا ينام هو ويسهر الخلق كلهم يتناولون شعره ! بهذه النظرة السطحية أجابني، وليته ما أجابني، أراد صديقي النيل من صاحب الحكم المشهورة والأبيات المأثورة، فكان لزاماً عليَّ الدفاع عن وجهة نظر لي مغايرة، وما دفاعي بنافع المتنبي، ولا اتهامه بضارِّه، أو حاطٌّ من علوِّ منزلته، ومع ذلك قلت له : إنني على العكس من ذلك يا صديقي، فأنا أرى البيت من أصدق ما قال المتنبي .. والمعنى - لا يخفى عليك - أنه يقول الشعر فينتشر ويتداوله الناس، وهو من شدة ثقته بنفسه نائم ملء جفنيه، تارك للورى أن يختصموا في تفسير شعره ومعانيه ومراميه .
فأما قولك عنه إنه كان يُدخل نفسه في صراعات ومناكفات مع غيره من الشعراء، فإن الأصح أن الشعراء من حقدهم عليه هم من كانوا يختلقون له المشكلات لينالوا منه ويحطوا من قدره، غيرةً منهم وحسداً، وما الموقف المأثور عنه مع الحارث بن حمدان أمام سيف الدولة وانتقاده له قبل إلقائه ميميته المشهورة، ثم إيغار صدر الأمير عليه ليرميه بالدواة لحظة إلقائه القصيدة ويجرحه إلا دليل على ذلك، ما جعله يرتجل البيت المعروف :
إنْ كان سرَّكمو ما قالَ حاسدُنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكمو ألمُ

فكان سبباً في رضا الأمير عنه وردِّ كيد الحاسدين الناقمين عليه .
وأما ما تدَّعيه من عقدة النسب لديه فإن هذا وهم تتوهمه وضرب من خيال، لأن المتنبي لم يذكر في شعره والده فقط، وإنما لم يُشر كذلك إلى جده ولا إلى قبيلته ونسبه، وعن هذا ( روى الخطيب عن علي بن المحسن عن أبيه قال : " وسألت المتنبي عن نسبه فما اعترف لي به، وقال : أنا رجل أخبط القبائل وأطوي البوادي وحدي، ومتى أنتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينه وبين القبيلة التي أنتسب إليها، وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني ) ، ولذلك فإن المتنبي كان يعنيه بالدرجة الأولى أن يُعرف عنه أنه المتنبي وأن تفخر به قبيلته لا أن يفخر هو بها، وهذه لعمري من شيم العصاميين العظماء، الخالدين من الشعراء :
لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فخرتُ لا بجدودي

وبعد يا صديقي فإن المتنبي ليس في حاجة إلى شهادة من عصرنا هذا، وقد شهد له المعري في عصره وكان يحبه ويتعصب له، وألَّف - كما تدري وتعلم - مؤلفاً ضخماً جاء في 1920 صفحة هو كتاب ( معجز أحمد ) درس وشرح فيه شعر المتنبي، وحسبك بالمعري شاهداً على شاعرية وعظمة المتنبي، وهو القائل : " لو لم يقل المتنبي سوى هذا البيت لكفاه فضلاً "، يعني به بيت المتنبي الخالد :
لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازلُ
أقفرتِ أنتِ وهنَّ منكِ أواهلُ

رعد أمان