آخر تحديث :الثلاثاء-17 سبتمبر 2024-03:17ص


عـلـى ظـهـر الـنَّـاقـة

الأحد - 08 سبتمبر 2024 - الساعة 04:39 م

ناصر الوليدي
بقلم: ناصر الوليدي
- ارشيف الكاتب




لملمت الشمس أطرافها، وألـقت نظرةً حانيةً على الصحراء، وأخذت تسير ببطء متجهة إلى ما وراء الوهاد، تاركة أبناءها يستعدون للإخلاد إلى النوم، ولتذهب هي أيضًا تأخذ قسطًا من الراحة في أحضان الكون.
لكن القافلة لم تتوقف عن المسير، صحيح أن الشمس ذهبت لتستريح غربًا، لكن القافلة أصرَّت على المضي شمالًا.
كان (أبو عبد الرحمن) يتمايل على ناقته وقد لـفَّهُ الصمت والهيبة، وعدد من رفقائه يسيرون حوله بوقار وسكينة، سرت من محيَّاهم إلى الجِمال التي يركبونها.
بدأ الليل يرسل لحافه على النائمين على مناكب الأرض، والنجوم ترسل إشاراتها للسائرين المسافرين، من يدري؟ لعلها تشفق على أولئك الذين يخترقون سواد الليل، فها هي تدعوهم للاهتداء بضوئها الجميل المتراقص، كالمصباح الذي تمازحه الريح.
ترك الأصحاب الطريق لأبي عبد الرحمن، وساروا وراءه تاركيه لصمته وسكونه وهيامه وتأملاته، إذ إنهم أدركوا أنه انفصل عنهم وأصر على المضي طوال الليل، منتشيًا بهذه الصحراء وليلها الهادئ، هل سحره جمال النجوم ورمل الصحراء في هذه الأرض البعيدة التي غابت فيها مظاهر الحياة؟ لا جبال، لا أشجار، لا أودية، لا عمران.
ليل بهيم، وسطح رملي أملس، ونجوم مسافرة، وأخرى قادمة، كأنها تسابقهم السير نحو الكوفة، حتى ليُخيَّل إليهم أن النجوم التي تركوها قد غادرت الحجاز وجاءت لتشاركهم السُّرى.
يا إلهي كيف سيكون ليل الحجاز بلا نجوم؟!
أما أبو (عبد الرحمن) فقد انصهر في الزمان والمكان والاتجاه، كان لا يشعر بأنه على ظهر ناقته، بل حسب نفسه راكبًا أجنحة الليل الذي أخذ يتسلل إلى ذاته المنتشية، فجعل نسيمه يدير عجلة ذاكرته إلى الوراء، نسي من حوله، فعاد إلى جبال مكة وأوديتها وأنديتها، كأنه يستنطقها علَّها تخبره بما جرى، لقد كان ما حصل فوق الخيال والممكن والمعقول، كانت تقفز إلى خياله الكثير من التساؤلات التي لا يجد لها، وربما وجد لها إجابات، لقد اختلط المعقول واللامعقول في ليله الصحراوي الحالك، هل هي لحظات تجلٍّ صنعها الزمان والمكان؟.
كانت جبال مكة تطل برأسها إلى ذهنه وقد دبَّت فيها الحركة كناقته الهائمة بهذا الليل، فيرى هناك بؤسه وضياعه، لقد كان لا يختلف كثيرًا عن شاة من قطيعه الذي يرعاه لأسياده من قريش، انتابته قشعريرة حين مرت بخاطره (قريش) كأنها إشارة إلى لحظات ترتجف حزنًا وألمًا، شعر أنه يشم رائحة مخلَّفات الأغنام وهي تتبعثر في حظائر الماشية.
كان أصحابه يجــرّون أنفاسهم وراءه طوال الليل، وسحائب من التعب والنعاس تتغشَّاهم، حيث إنهم لم يغادروا ظهور الإبل إلا لصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير، لم يجرؤوا أن يراجعوه حينما شعروا بأنه يحب أن يقضي ليله على ظهر ناقته، هل يحسون بما يموج في خواطره؟.
إن الحدث كبيرٌ، عصيٌ على التفسير، فَلِمَ يرهق نفسه في فلسفة وقائعه، فليعز ذلك لمشيئة الرب.
لم يكن يتصور أن يغادر حظائر أغنامه إلا إلى القبور حيث يتاح له هناك فقط أن يرقد بجوار أسياده، هكذا كانت الحياة ستمضي كما مضت على كثير ممن سبقوه من الرعاة والضعفاء والعبيد، إنها فلسفة الواقع الذي يفرض شروطه، غير ملتفت إلى مشاعر الناس واحتياجاتهم وطموحهم بل ولا إلى إنسانيتهم.
أخذت الدموع تملأ عينيه حينما جرَّته الذكريات إلى ذكر {أستاذه العظيم} الذي خلَّفه في المدينة، راقدًا في أحضانها.
أخذ يتمتم بكلمات يناجي بها ذاته والعَبرة تخنقه:
لأكوننَّ وفيًا بعهدك، لقد أخرجتنا من كابوس القهر والجهالة، لأحملنَّ عهدك إلى العراق، ولأصرخنَّ به بأعلى صوتي؛ لأني على يقين أن صوتي سيمتطي الريح فيصل إلى أطراف الصين، وسيخترق الجبال متجهًا إلى شعوب الرومان، لقد وعيت دروسك، لقد فهمت تعاليمك، آه لو كان لناقتي جناح لطارت بتعاليمك إلى حيث تنتهي الثلوج، أريد أن يعلموا ما صنعتَ بنا، أريدهم أن يروا الراعي كيف أصبح معلمًا، أريد أن أخبرهم أنباء العبيد الذين أصبحوا قادة، والعُمْي الذين طلع عليهم صبح البصيرة، أريد أن أُرتِّل لهم كلمات الحياة، علَّها تذيب الأغلال التي تحيط بأعناقهم.
ــ أيها الشيخ.. أيها الشيخ، ها هو الفجر قد طلع، فهل ننزل الآن لنصلي؟ أم نسير قليلًا حتى يسفر وجه الصحراء؟
كأنه لم يسمع، فمضى في مناجاة ذاته:
الفجر؟ أي فجر تعني؟ قد طلع الفجر، وأضاءت الدنيا، وودَّعنا الظلام، قبل أن يرحل حبيبي.
ــ أيها الشيخ، يا أبا عبد الرحمن، يا بن مسعود...
ها هي الكوفة قد تبدَّت لنا، والناس تنتظر قدومنا، وأنوار الفجر ملأت الدنيا.
ــ انيخوا الإبل، فلنصلِّ هنا قبل أن تطلع الشمس.