آخر تحديث :السبت-04 مايو 2024-01:39م

في ضيافة جبال اليمن

الأربعاء - 24 أبريل 2024 - الساعة 09:14 ص

سناء اليونسي
بقلم: سناء اليونسي
- ارشيف الكاتب


يرهبني الجبلُ.. جبال اليمن أيضًا، لكنَّ شيئًا مازال يجذبني إليها كلما رحلت إلى هناك، كصدرٍ يتّسع لطبيعتي المتمردة لكنه أحيانًا يثور.
قطعت اليمن من الشمال إلى الجنوب عبر البرّ سنة 2005، كانت ثانية زياراتي، وكان قد بدأ يتشكّل لي تاريخ وذكريات حينها في ذلك البلد الذي لازمني بعد مغادرتي له. مهمتي هذه المرّة كانت أصعب، وجه جديد لليمن سأتعرف عليه، وسأخرج من صنعاء لأزور القرى والمدن التي ستوصلني إلى �عدن� ومن ثمة إلى �أبين�، حيث تقرر أن ألتقي في جبال �حطاط �خالد عبد رب النبي� وما أدراك من هو �خالد عبد رب النبي�.
كان اسم الفيلم الوثائقي الذي أنجزته هذه المرة �الإرهاب، والإرهاب الآخر�، وثائقي وصفته بعض الصحف اليمنية بعد العرض أنه كان أهم وأشمل برنامج تلفزيوني تبثه قناة عربية عن الإرهاب ودوره في الصراعات المسلحة التي عاشها اليمن طوال الخمس عشرة سنة الماضية. حاولت فيه من خلال ساعتين تلفزيونيتين أن أستعرض المشهد اليمني كاملًا وأن أناقش مع ما يقارب الأربعين ضيفًا مشكلات العنف والصراعات المسلحة والإرهاب (الأصولي) الجديد ونسخته اليمنية الخاصة، والعلاقة المركبة التي تجمع هذا الإرهاب الخاص مع بعض مكوّنات السلطة، وبعض الجماعات السلفية الجهادية.
كان من غير الممكن الخوض في موضوع الإرهاب في اليمن دون الحديث عن تجربة المراجعات �الفكرية� التي سوّقها نظامُ علي عبد الله صالح لحلفائه في الغرب كجزء من حربه على الإرهاب. وتم تكليف القاضي �حمود الهتار� برئاسة لجنة الحوار ممثلًا للحكومة اليمنية في عملية المراجعات الفكرية مع معتقلين في سجون صالح، حُوكموا بتهم متعلقة بالإرهاب.
كان طارق الفضلي وناصر البحري  ضمن هؤلاء المعتقلين، ناصر وطارق كانا من المقربين جدًا لأسامة بن لادن، إلا أني لم أنجح في إقناع القاضي – ولا الجهات التي كانت مكلفة بمتابعة مفاوضاتي معه- بأهمية مقابلتهما، وفي المقابل أخبروني أن بإمكانهم ترتيب مقابلة مع �خالد عبد رب النبي� زعيم جيش عدن – أبين الإسلامي الذي كان قد ارتبط اسمه بالكثير من أعمال العنف في اليمن، من بينها تفجيرات واغتيالات لضبّاط أمن إلى جانب اختطاف 16 سائحًا أجنبيًا وذلك عام 1998، وأسفر عن مقتل أربع رهائن، إلى جانب ارتباط عناصره بالتفجير الانتحاري الذي استهدف المدمرة الأمريكية يو إس إس كول، عام 2000، في ميناء عدن وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل 17 بحارًا أمريكيًا.
كانت الرحلة من صنعاء إلى جعار كقطعة من الجحيم ولا أدري إلى اليوم لماذا رفضت أخذ الطائرة من صنعاء إلى عدن وتوفير كل تلك العذابات، نقاط التفتيش العسكرية، حالة الطرق المتآكلة، الحرارة المفرطة وإصرار السائق على عدم السماح لأي كان بتجاوزنا على الطريق.
حين بدأت أنوارُ عدن تلوح مع بداية حلول الظلام، اعتقدت أنَّ كل شيء قد انتهى وأني سأنعم بساعات من الراحة في انتظار صباح الغد. إلا أني بمجرد ما ترجلت خارج السيارة أحسست بتلك الرطوبة الخانقة والحرارة القاتلة.
بدأت منذُ الصباح أحاول الاتصال بخالد عبد رب النبي الذي كنت قد اتصلت به من صنعاء بنفسي وحدد الموعد في جعار بعد صلاة العشاء، لكن أمام تكرر الاتصال دون الحصول منه على رد بدأت أقلق واتصلت بالقاضي الهتار، الذي أخبرني أن �الشيخ� خالد يفضل أن يكلمه رجل، وأنه لن يكون بإمكاني إجراء المقابلة معه بنفسي بل عليّ إرسال �رجل� للقيام بالمهمة.
لم يكن السائق ولا المصور ولا مهندس الصوت يَفون بالغرض، لم يكن أمامي سوى الاستنجاد بصحفي من صنعاء ليقوم بالمقابلة بدلًا عني. وأمام إصراري على حضور تسجيل المقابلة، لم يكن أمام �الشيخ� إلا الموافقة على أن أحضر التصوير دون أن أنطق بكلمة واحدة، وأن أجلس في ركن بعيد من الغرفة التي كانت أصلًا ضيقة جدًا، اتفقت مع الصحفي الذي سيحاوره على الأسئلة والتزمت الصمت، وأنا ألتحفُ برقعًا أسودَ يحجب عني الرؤية والهواء.
كنت أتنفس بصعوبة في تلك الغرفة التي كان فيها ما لا يقل عن ستة أشخاص، ثلاثةٌ منهم مسلحون، كانوا جميعهم يرتدون قمصانًا خفيفة و �معاوز�، وحدي أنا كنت مغطاة بقطعة كبيرة من القماش الأسود. لم تمنعني درجة الحرارة المرتفعة في الغرفة من التركيز مع لعبة السين والجيم، وبما أن الصحفي الذي كان سيقوم بالمقابلة بدلًا عني لم يكن يعرف بالتحديد ما كنت أريد أن أحصل عليه من الرجل، وبما أنه كان ملتزمًا بالأسئلة التي كنت قد وضعتها على عجل، حبست أنفاسي، وقلت: إنه لن يحصل لي أسوأ مما أنا فيه، فقررت التعقيب على ردّ لخالد عبد رب النبي لم أجده مقنعًا، ساد الصمت في الغرفة للحظات، ورد علي الشيخ دون اعتراض، وهو ما جعلني أفهم أنه بإمكاني الاستطراد في الحديث، حاولت أن أعرف منه سبب عدائه للاشتراكيين الذين قاتلهم بعد عودته من أفغانستان، وطلبت منه أن يشرح لي ماذا تغير في قناعاته بعد الحوار، كان الشيخ خالد في أوّل جواب يوجه الكلام للصحفي الجالس أمامه، وفي ثاني سؤال ابتدأ يدور برأسه ويوجه لي الكلام أنا الجالسة وراءه، وهكذا حتى إنه في آخر الأجوبة عدل جلسته وأصبح يرد على أسئلتي مباشرة، حتى إنه من فرط حماسه أنكر أن يكون قد تراجع عن أي من قناعاته.. أما أنا فكنت قد نسيت الرطوبة والحرارة المفرطة، كل ما كنت أفكر فيه، هو أني سأعود إلى صنعاء وقناعتي راسخة أن �الشيخ� خالد هو فعلًا عميل من عملاء الأمن السياسيّ.
يخيفني الجبل.. وخصوصًا جبال اليمن .. وجبال �حطاط� واحدة من تلك الجبال التي جعلتني أحبس أنفاسي، وأعرف أنّ الله حقّ.
الراية