آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-10:46ص

المادة والروح في مسيرة الحضارات البشرية ..!!

الخميس - 28 مارس 2024 - الساعة 01:28 ص

إبراهيم ناصر الجرفي
بقلم: إبراهيم ناصر الجرفي
- ارشيف الكاتب


تمكن البشر خلال تواجدهم على كوكب الأرض من إنشاء الكثير من الحضارات ، وكان لكل حضارة خصوصياتها الفكرية والثقافية والمادية التي تتميز بها عن غيرها من الحضارات ، وكانت العلاقات فيما بينها تقوم على التنافس ، وللأسف الشديد كان ولا يزال التنافس السلبي هو السمة السائدة لتلك العلاقات في معظم الفترات التاريخية ، بينما كان التنافس الإيجابي فيما بينها يظهر في فترات تاريخية محدودة ، وذلك نتيجة لإعتناق قادة وشعوب تلك الحضارات للثقافة المادية البحتة أو للثقافة الروحية المتطرفة والمتشددة ، والتي تدفع بهم للنزوع نحو استخدام الوسائل السلبية والعدوانية في إدارة علاقاتهم مع الآخر ، وذلك هو النتيجة الطبيعية لإختلال التوازن بين الثقافة المادية والثقافة الروحية ، وبالفعل وخلال فترات تاريخية مختلفة ظهرت حضارات كثيرة ذات نزعة مادية ، وحضارات أخرى وإن كانت أقل ذات نزعة روحية ، وأياً منهما لم تمتلك مقومات البقاء والديمومة ، وذلك نتيجة إختلال التوازن بين الجوانب المادية والجوانب الروحية ..!!

فعندما تطغى المادة على حساب الروح والأخلاق تتحول الحياة إلى غابة البقاء فيها للأقوى ، فينتشر الفساد والرذيلة ، ويسود الظلم والتظالم والعنف والصراعات ، وهو ما يقود الحضارة إلى الإنهيار ، وعندما يطغى الروح على حساب المادة تتحول الحياة إلى دير للرهبنة وزاوية للتصوف ، فيسود العجز وتزداد الفاقة ويظهر الجهل وتهيمن الخرافات والأساطير والكهانة ، وهو ما يقود الحضارة إلى الضعف والتخلف والهوان والزوال ، من اجل ذلك جاء المنهج الإسلامي بالكثير من التشريعات التي تدعوا للتوازن بين الماديات والروحانيات ، بحيث لا تطغي اياً منهما على الأخرى ، ولم يتوقف المفكرون والمشرعون يوماً عن البحث والدراسة للوصول بالمجتمعات البشرية لحالة من التوازن المادي والروحي ، كون ذلك هو الضمان الوحيد للحصول على الحضارة البشرية النموذجية والمثالية ، القابلة للتطور والحداثة والديمومة ، لأنه ليس مقدراً على البشر أن يقعوا إما تحت طغيان المادة ( الامبريالية الرأسمالية ) أو غلو الدين ( الجماعات المتشددة والارهابية ) أو تطرف الايديولوجيا ( الشيوعية ) ..!!

فباستطاعتهم من خلال الالتزام بالتشريعات الدينية الوسطية ، وبالأفكار والنظريات البشرية العقلانية ذات النزعة الاخلاقية والإنسانية ، أن يكسروا هذا الجمود ، ويعيشوا حالة التوازن الذي يمكن أن ينعموا تحت ظلالها بالسعادة والرفاهية والاستقرار والراحة النفسية والتعايش السلمي والتعاون وصولا إلي تحقيق التعارف الإيجابي ، قال تعالى (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا )) ، وهو ما سوف يمكنهم من تشييد حضارات إنسانية أكثر تطورا وتقدما ، حضارات تحرر بني الإنسان من ضغوط الماديات وسطوتها على حياتهم وتفكيرهم ، ولا تحرمهم من أشواق الروح ومتعة العبادة والراحة النفسية ، وتخلصهم من سطوة التطرف والتشدد الديني ، الذي يسعى إلى حرمانهم من متع الحياة ونعيمها وجمالها وزينتها ، قال تعالى (( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )) ، نعم إن حالة التوازن بين المادة والروح في الحياة ، هي الحالة المثالية التي تنشدها كل الأديان السماوية ، وترنوا إليها كل النظريات والأفكار البشرية ذات النزعة الإنسانية والاخلاقية ، فالخير كل الخير في التوازن بين المادة والروح في مختلف جوانب الحياة ، وعلى كل المستويات الفردية والجماعية ، والشر كل الشر هو في طغيان أياً منهما على الآخر ..!!

من أجل ذلك لن تنعم المجتمعات البشرية بالأمن والأمان والاستقرار والتعايش السلمي ، ولن يسود فيما بينها التعاون والتعارف الإيجابي والأخوة الإنسانية ، ولن تحافظ على انجازاتها الحضارية ، إلا في حال نجحت في تحقيق حالة التوازن بين الثقافة المادية والثقافة الروحية ، فكل منهما يكمل الآخر ، فلا حياة للروح بدون توفير حاجاتها ومتطلباتها المادية ، ولا حياة للروح بتقييدها وتكبيلها بقيود وأغلال التطرف والتشدد والغلو والارهاب والكراهية والتكفير والإكراه والإجبار ، والمادة إذا لم يتم ضبطها بالقيم الاخلاقية والانسانية فإنها تتحول إلي نقمة ، تحول حياة البشر إلى حلبة صراع يكون البقاء فيها للأقوى والأغنى ، حياة يكون الهدف منها جمع الأموال والثروات ولو على حساب مآسي ومعاناة وألآم وأحزان الآخرين ، حياة عنوانها الحروب والصراعات والخراب والدمار ، حياة تسيطر على أحداثها وعناوين أخبارها القتل والقتال والتوسع والاستعمار والهيمنة والتسلط والسلب والنهب والاستبداد والطغيان ، لذلك كان وسيظل التوازن بين اشواق الروح وحاجاتها المادية هو الوضع المثالي ، وهو الطريق الصحيح للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة ..!!