آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-11:53م

رمضان تحرير إرادة السلم ،،،

الإثنين - 11 مارس 2024 - الساعة 06:38 م

د. سعيد سالم الحرباجي
بقلم: د. سعيد سالم الحرباجي
- ارشيف الكاتب




هكذا تتنوع العبادات ، وهكذا يختلف أداؤها ، وهكذا تختلف هيئاتها ...وكل عبادة من تلك العبادات ، وكل شعيرة من تلك الشعائر .... تحقق غاية معينة في حياة المسلم ، وتهدف إلى إصلاح جانباً من جوانب أخلاقه ، وتسعى لتنمَّي سلوكاً من سلوكياته الحسنة ،،

وها نحن اليوم نعيش أجواء عبادة فريدة ، ونؤدي شعيرة عظيمة ...
إنها عبادة الصوم ..
ويا لها من عبادة !!!
عبادة تُؤدَّى في العام مرة واحدة لمدة شهر كامل ، تبدأ من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس ،،،
وخلال تلك الساعات الطوال ....يتعرض المسلم فيها لامتحان صعب ، ويدخل في ابتلاء عظيم ، ويمر بأوقات عصيبة ..
ذلك أنه يتوجب عليه أن يمتنع عن الأكل ، والشُرب ، وجميع الملذات حتى يطرق مسامعه الأذان لصلاة المغرب ،

فحقاً إنها عبادة تستحق التأمل ، وشعيرة تستحق الوقوف على معانيها ، ومفاهيمها ، ومقاصدها ،،
ولعل من أهم المقاصد التي نستشفها من الصوم ...
أنه عتق النفس الإنسانية من كل رقٍ...
من رقِّ الحياة ومطالبها ، ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، ومن رقِّ المخاوف حاضرها وغائبها ،وذلك حتى تشعر بالحرية الخالصة.
حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل.

فتحرير النفس المسلمة ......هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا ، ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها الحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق- لا يرضى لها أن تذلَّ لأعظم حاجات البدن؛ ....لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة؛ لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض؛ لأنها أعزُّ سلطانًا منها.
وأراد الله أن يكرِّم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس عن ربه إذ قال: ((الصوم لي)). فلا رياء فيه؛ لأنه جُرِّد لله فلا يراد به إلا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزي به كما يشاء.

وقد دلَّنا الله سبحانه على طرف من هذا المعنى إذ جعل الصيام معادلًا لتحرير الرقبة في ثلاثة أحكام من كتابه:
إذ جعل على من قتل مؤمنًا خطأ تحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ}
وجعل على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا تحرير رقبة من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} .
وجعل كفارة اليمين تحرير رقبة {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} .

 فانظر لِمَ كتب الله على من ارتكب شيئًا من هذه الخطايا الثلاث ........أن يحرر رقبة مؤمنة من رقِّ الاستعباد، فإن لم يجدها فعليه أن يعمل على تحرير نفسه من رقِّ مطالب الحياة، ورقِّ ضرورات البدن، ورقِّ شهوات النفس،.
فالصيام كما ترى هو عبادة الأحرار، وهو تهذيب الأحرار وهو ثقافة الأحرار.
فلو أدرك المسلم من الصيام معاني الحرية ، وأسباب الحرية ، ومقاليد الحرية ...لأنف أن تكون حكمة الصيام متعلقة بالأحشاء ، والأمعاء ، والبطون .

ذلك أن انتصار النفس ، واستعلاء النفس ، وثبات النفس ، وصبر النفس على الملذات خلال شهر كامل ... ...هو أعظم ما تتعلمه كي تنتصر في الحياة على بطش الطاغي ، ومقاومة الظلم ، ومقارعة الأعداء ، وتحدي الخطوب .

ذلك أنَّ النفس التي تنتصر في ميدان هجر الملذات طواعية ....لجديرة أن تنتصر في ميدان معارك الشر مع الأعداء .
فلا يهمها الجوع والحرمان إذا كان ذلك ضريبة للحرية .
ولا يشغلها أن تتألم ، وأن تتوجع إذا كان ذلك ثمناً للاستعلاء.
ولا تبالي أن يتقدم صاحبها الصفوف غير هيَّاب المنايا إذا كان في ذلك إرضاءً لربه سبحانه وتعالى.

ذلك هو المقصود من العبادات ..
تهذيب النفس ، وتربيتها ، وترويضها ، وتزكيتها ...حتى تكون قادرة على تحقيق منهج الله في الأرض ، وأن تكون كلمته هي العلياء .

تلك المعاني الرائعة للصوم غائبة عنا اليوم ...لأنا مشغولون بأمعائنا ، وببطوننا ، وبملذاتنا .
لذلك لا يتأتى ، ولا يتحقق الهدف المرجو من العبادات .
( فإذا ما فقهتَ ذلك ....فلا تتعجب من أحوالنا التي وصلنا إليها )