آخر تحديث :الأحد-28 أبريل 2024-09:31ص

محطات في كتابة الذات (2)

الثلاثاء - 20 فبراير 2024 - الساعة 03:44 م

د.عبده يحيى الدباني
بقلم: د.عبده يحيى الدباني
- ارشيف الكاتب





كثيرًا ما حكى لي صاحبي محمد عن قصص الطفولة والرعي و المدرسة و الأرض، أنا أعرف قريتهم، قريتهم هي قريتي كذلك تقع في سفح جبل عالٍ من جهة الشمال وتحيطها الجبال ايضا من جهتَي الشرق و الغرب، و من جهة الجنوب هناك  فجٌّ عميق مفتوح تستطيع من أعلى الجبل الشاهق الذي يحتضن القرية  أن تشاهد ليلًا الأضواء في مدينة عدن و غيرها كلحج مثلًا و العند.  جبل "غبيراء" الشاهق يعد في الجغرافيا ثاني جبل في الارتفاع بعد جبل "جحاف" الشهير على مستوى جغرافية الجنوب،  يردد البعض في حالمين أن جبل  غبيراء أكثر ارتفاعًا من جبل جحاف، لكنه إجحاف في حق حالمين إذ ظُلِمَت في الجغرافيا و التاريخ، و لكن هذا الكلام ليس مثبتًا علميًا و لا ضَير فغبيراء و جحاف أخوان في الشموخ و العزة و الكرامة و الفداء، نحن من فوق جبل غبيراء نشاهد جبل جحاف موازيًا لنا، و على شمالنا جبل حرير يبدو أقل ارتفاعًا من جبلنا الذي يعانق السماء، ما أجمل تلك القمم و ما أعزَّها و ما أقساها!
قضى محمد طفولته هنالك بين أحضانها و شراسيفها و نتوءاتها المدببة يرعى عددًا من الضأن يقطرها أمامه طابورًا جميلًا فيزداد سرورًا كأنه يقود كتيبة من الجنود، كم كان يحبها و يحرص على أن ترعى و تشبع و أن تشرب حتى تبدو كروشها منتفخة و أن يعود بها إلى البيت و بطونها مع ظهورها، حسب تعبير أهل القرية عندما تكون الغنم و الضأن منتفخة بطونها شبعًا لا سيما أيام الخصب و المطر أيام الخريف.
كان يرعى في سنوات دراسته الأولى و كانت الضأن تنتظر عودته من المدرسة بفارغ الصبر لينطلق بها إلى المراعي القريبة عند الظهيرة، كان يتألم لجوعها و لكنه مهتم بدراسته كذلك، كان يحمل كتبه و يذهب خلف هذه الحيوانات الأليفة الوديعة التي تبعث الرحمة في قلب من يرعاها رغم العناد الذي تتميَّز بهِ أحيانًا، يرقبها  وهي ترعى بنهم بعد أن سُجِنَت صباحًا، و كان يغني بعض أغاني أيوب طارش عندما يعلو القمم، مثل:
"أشكو لمن يا نجيم الصبح قلبي الولوع،
ومهما يلوعني الحنين..."و غير ذلك
و يسمع بعض من في القرية و يلفت انتباههم إلى وجوده هناك في المراعي فوق الجبال القريبة من القرية، لأنه أحيانًا كان يحس بالوحشة و الوحدة و يريد أن يلفت الناس إلى وجوده.
هذا الفتى كان يحب و يتألم من الحب و يتأوه و هو لم يزل صغيرًا ، و لم يكن يستغرب من هذا الحب المبكر؛  لكن الذين يلاحظون منه هذا الشغف يتعجبون بل لا يكادون يصدقون، و هو اليوم حين يتذكر ذلك يجزم بأن ذلك كان حبًا حقيقيًا، كأي حب عاشه في تجارب أخرى في شبابه و كهولته مع بعض الفروقات، به الشوق و به الألم و به الغيرة و به الاهتمام و الاستغراق في  التفكير بمن يُحب... واعجباه!
توفت أمه و هو في الصف السادس في عام 1977م  كان يومًا لا يُنسى، فهذا أول حدث يصدمه في حياته.
لم تكن كبيرة في السن و لكن سنين القرية جعلتها تشيخ قبل الأوان، كان هو ابنها الأخير بعد أربعة أخوان  واختَين، كانت قد ودعت الحمل بعد ابنها الرابع و تخلصت من أعبائه القاسية في ظل حياة أشد قسوة تحررت من الحمل سبعا سنوات عجاف  فإذا  بمحمدٍ هذا صاحبي يتحرك في أحشائها المتعبة، انزعجت كثيرًا من هذا الحمل غير المتوقع الذي جاء في الوقت الضائع ، كانت تظن أن ذلك الهدف الأخير في مرماها و أظنه كان لها في مرمى الأيام ! 
كان صاحبي يجول في بطنها كثير الدوران و الحركة كما هو في حياته و كان ذلك يؤلمها و كانت تبكي لأمها و تشكو من هذا الزائر المزعج على غير ميعاد و تقول:
-يا اماه قدني حُبيلى
تقولها بأسىً منتظرة من أمها الطيبة عزاءً أو تشجيعا  فتهش الأم فرحًا و سرورًا و تمسح بيديها على بطن بنتها و تقول:
-أسماء ربي أسماء ربي عليك، الله يبارك الله يبارك خير و بركة يا بنتي. 
هل كان يحس صاحبي بيد جدته وهي تغشى سماءه من الخارج؟ 
لقد كانت تلك أول شفاعة له عند أمه قبل أن يولد فترضى عن حملها ذلك - رحمهما الله تعالى- إن رضىا الوالدين عندنا أمر مهم حتى قبل أن نولد،
 كانت جدة عاقلة و رصينة و مباركة.

ذهب أهل القرية بأمه الى البطحاء  وهي مقبرة القرية، لم يشاهد كل ذلك في الصباح الشاحب لقد أُدخل هو  وأخواه اللذان يكبرانه إلى غرفة من غرف الدار و أغلقوا عليهم الباب  فجلسوا يبكون جميعًا يبدو أنه كان أقلهم بكاءً مع أنه كان أكثرهم مصيبة برحيل أمهم، لعله لم يدرك المأساة حق الإدراك، و حين فُتحَت لهم الغرفة كان الناس قد دفنوا أمهم و قد عادوا و قد اقترب موعد الغداء الذي يسمونه المَعزى في القرية.
و حين حلَّ المساء شعر بالفاجعة  وبذلك الفراغ الرهيب الذي خلَّفه رحيل أمه، أين ينام؟ و كيف ينام؟ و متى ينام؟
إنها ليلة الوحشة!، لا يزال صاحبي حتى اليوم يعاني بتوتر العلاقة بينه  وبين النوم ذلك التوتر الذي بدأ في تلك الليلة الظلماء .
قُبيل المغرب رأى صاحبَيه في الطريق في أسفل الجبل لم يتذكر ماذا قال لهما لكنه لم يطلب منهما أن يصعدا إلى عنده ولكن سرعان ما صعدا إلى حيث جالسا ،لقد رحماه و تعاطفا معه على ما حلَّ به من مصيبة -الله ما أروع الأطفال! و هم يرحموا بعضهم بعضا-

هل حدثتكم عن صاحبي حين انتقل للدراسة في الثانوية؟
لعلِّي لم أحدثكم بعد عن ذلك. 
اخطر مراحل العمر هي تلك المرحلة، مرحلة المراهقة لكنَّ ذكرياتها حلوة  وإن كانت مشتتة ،
و أيامها مضطربة فهي عتبة العمر على طريق المستقبل و النضج و النجاح أو الاخفاق أو كليهما 
قال يخاطب أباه بحرجٍ و خوف:
-بكرة أروح الحبيلَين
صاح الأب مندهشًا:
-الحبيلين! أيش معك؟ أنتَ و من؟
-باروح أدرس ثانوية هناك أنا و فلان و فلان...
-يابني أدرس هنا الحبيلين بعيد و أنت عادك جاهل و قدك بتقرأ و بتكتب خلاص بس يكفي !
انزعجَ أبوه من هذا الإعلان لم يرد أن يذهب بعيدًا فهو في نظره لم يزل صغيرًا و الحبيلين آنذاك ليست مثل اليوم قريبة و فيها سكان معاريف من القرية أو القرى المجاورة لنا،  فمحمد  سوف يدرس هناك و يسكن في قسم داخلي  مع مئات من الطلاب من يافع و ردفان و حالمين و غيرها، و قد كان سعيدًا بذلك مشتاقًا الى هذه الحياة  والاختلاط بالناس و الاقتراب من المدينة و الأسواق و بواكير الحرية الفردية .
رضخ أبوه أخيرًا، و وافق مضغوطًا عليه،  ليس من قبل محمد فحسب لكنها رياح العصر نفسها إذ لا يستطيع أب أن يمنع أبناءه من مواصلة الدراسة هو لا يجهل دور التعليم  وأهميته و طبيعة المرحلة و لكنه كان يريد أن يبقى ابنه قريبًا منه من ناحية، و من ناحية أخرى ليساعده في العمل في الأرض و رعي قطيع الضأن وخوفا عليه لأنه لم يزل صغيرا.
 و في صباح اليوم الثاني كان محمد فوق السيارة الوحيدة التي تعمل بين القرية و مدينة الحبيلين و تزود القرية باحتياجاتها المختلفة و كان في جيبه ورقة حمراء عريضة كُتب عليها "الجنوب العربي" و خمسة دنانير  ومائة شلن، و هو لأول مرة يملك هذا المبلغ ، سوف ينتقل بها الى الحبيلين و منها سوف يتزود بالدفاتر و الأدوات المدرسية و بدلة الثانوية و غير ذلك، و منها سيقتات إلى جانب ما يقدمه القسم الداخلي للطلاب من وجبات ثلاث متواضعة جدًا سوف نصفها في وقتٍ لاحق من هذا الحشوش الجميل على صديق العمر محمد !!

كانت السيارة تتسلل بهدوء و بطء  وهي تنزل الجبل الشاهق بطريقه الضيقة الصعبة، فالذي يراها من خارجها يخاف أكثر من الذين يركبون عليها و أي خطأ يحدثه السائق كفيل بأن يجعل السيارة تتزحلق الى أسفل الجبل بمن عليها، و قد حدثَ ذلك مرات منذ فُتِحت تلك الطريق إليها.
كان محمد و زملاؤه فرحين بهذه الرحلة التي ستغيِّر مجرى حياتهم، كأنهم سيودعون حياة البداوة  ويلتحقون بحياة الحضارة، مع أن القرية ليست حياة بدوية صرفة، ففيها مدرسة و فيها عيادة صحية  وتصل إليها السيارات و إن كان ذلك بصعوبة خاصةً،  أقصد السيارات التويوتا الشاص فقط، و أهلها يسمعون الإذاعات و منها أعضاء في اتحاد الشباب الديمقراطي ( اشيد) ، و فيها لجنة من لجان الدفاع الشعبي التي تدير حياة المواطنين في القرى و في المدن، و قريتنا تعد وحدة سكنية ولها اسم حديث، و الجمهورية تنقسم إلى محافظات، و المحافظات إلى مديريات، و المديريات إلى مراكز،  والمراكز إلى أحياء، و الأحياء إلى وحدات .
نعم لقد كانت قريتنا واحدة من وحدات حينا الذي كان اسمه حي "14 أكتوبر" أما الوحدة فقد كان اسمها وحدة "سيلفادور يالندي"
صاحبي محمد اليوم  قد وصل إلى لقب الأستاذية  و لم يُجد بعد أن ينطق هذا الاسم الذي كان يطلق على قريته في سبعينيات القرن الماضي حق النطق واصحه فالاسم غير عربي.
أحد المناضلين المتحمسين من أبناء القرية سماها بهذا الاسم العالمي الأممي لكنه كان صعبًا على النطق "سيلفادور يالندي"... يا سلام!
حروفه بعدد مدرجات القرية المتراصة الرشيقة .
سأل أحد المواطنين رجلًا حكيمًا  ومتعلمًا من أهل القرية:
-من هو هذا سيلفادور يالندي؟
فرد عليه متهكمًا و مازحًا:
-هذا شهيد سقط في (رهوةٍ المتنة)
ورهوة المتنة هذه  مكان يقع في مدخل القرية.
تخلصت السيارة من تزحلق الجبل بهدوء و خوف و دخلت إلى سائلة وعرة لكنها ليست خطرة و لكن السير فيها رجرجة فالطريق فيها محفر .. 
نزلنا في الحبيلين شعثًا غبرًا كل الوجوه كانت جديدة علينا و كنا نهرب من السيارة و هي بعيدة منا كانها تلاحقنا كنا في حذر مبالغ فيه من كثرة ما نسمع من حوادث الأسواق  ومشاكلها و أهل الخداع و المكر  واللصوص و أكثر ذلك أحاديث عجائز .
كان الأب طول الليل يدور فوق سطح الدار لم ينم ليلتها ينظر في الظلام نحو الفج الواسع جنوبًا هنالك الحبيلين فكأنَّ ولده رحل إلى الأمريكيتَين .


و بعد منتصف الليل و في تلك الليلة كانت سيارة تتسلق الجبل، ذلك الجبل الذي تدحرجت فيه صباحًا، ظلَّ الأب من على سطح الدار يرقبُ هذه السيارة لعلَّ فيها محمدًا، لعلَّ محمدًا قد عاد، و لكن كيف يعود و هو سيظل هناك يدرس حتى يزور القرية بعد شهر، لكنه احساس الأب،  ظل ينتظر حتى وقفت السيارة في قرية مجاورة لنا و لم تصعد إلى قريتنا التي كانت أعلى القرى ارتفاعًا و ليس بعدها إلا الجبل الشاهق الذي حدثتكم عنه من قبل، مرَّت ساعة و هناك دقٌّ على باب الدار، صاح الأب:
-من؟
-أنا محمد افتح يا به ..
-محمد يا الله! رجعت الحمدلله
فتح له الباب و تصافحا كأنما افترقا دهرًا، رحيل و غياب و عودة في أقل من 24 ساعة، هكذا الاغتراب وإلا بلاش،  أعلن محمد لأبيه أن المائة شلن قد صُرِفَت كاملةً و لم يبقَ منها شيء، ضحك الأب مستغربًا و لكنه أردف :
-سهل يابني المهم رجعت بالسلامة
قال محمد مفصلًا لأبيه كيف صرفت هذه الورقة الحمراء في يوم واحد كأنه يقدم كشف حساب:
-دينار كراء السيارة إلى الحبيلين  ودينار حق العودة، و جبت لك كرز سيجارة بدينار، و زنبيل حلوى هدية بدينار، و دينار غداء و شاهي  وشراب... و هكذا انتهى المبلغ
فقال الأب معلقًا:
-إذا كنت في كل يوم ستصرف مائة شلن أثناء دراستك فهذا سيجلب لنا الفقر !
-أبشر يا أبي هذا العام سوف ندرس هنا في حقنا المدرسة و نكمل الصف الثامن فيها و في العام القادم سننتقل إلى الحبيلين لدراسة الثانوية
عاد محمد و زملاؤه لإكمال الدراسة في مدرسة الحي الذي يتكون من عدة قرى وهي مدرسة الرباط ، ولكن في ذلك العام غادر المدرسون الذين قدموا من الحوطة و الوهط  إلى مناطقهم لقد حولتهم إدارة التربية  والتعليم في لحج إلى مدارس مختلفة قريبةمن سكنهم ، ولكن ما الذي جرى حينها ليحدث مثل ذلك الحدث الذي كان مؤلما لسكان الحي ولطلاب المدرسة الذين أحبوا أولئك المعلمين الوافدين من عاصمة المحافظة ومن الوهط و غيرها من قرى تُبَن العزيزة، ولم يبقَ في المدرسة سوى معلمين قلة هم من أبناء المنطقة و لكنهم لا يستطيعون أن يغطوا الصفوف الثمانية تدريسًا، و لقد حدثَت تلك المغادرة لنوارس لحج  من معظم مدارس حالمين وذلك في العام الدراسي 1979م  1980م كان ذلك العام كئيبًا جدبًا بعد أن رحلَ آخر فريق من المعلمين الأوائل الذين أسسوا المدارس في حالمين و غيرها من مدارس الريف، لقد أبلوا بلاءً حسنًا و قد كانوا فاتحين بحق،  علمونا كيف نمسك بالأقلام و نخط  حروفًا لم يخطها كثير من أبائنا و أجدادنا القريبين و لا أمهاتنا.
 ففي شتاء عام 1968 تأسست مدرستنا الحبيبة، مدرسة من غير صفوف أولاً إذ كانت الدراسة تحت ظل أشجار  العلب القوية الراسخة، كل شجرة تأوي صفًا، و هكذا نهضَ المواطنون بحث ومساعدة من الحكومة  ببناء صفوف المدرسة بطريقتهم ، وشرعوا ببناء وحدة صحية و نادي ثقافي و بيت متواضع للمعلمين الوافدين إلى المنطقة،  وزجوا بأنفسهم بقوة جبارة في معمعة شق الطريق إلى الجبل الشاهق الذي يحتضن قراهم.
 كادت الدراسة تتعثر في ذلك العام فبينما كنا عائدين لنكمل دراستنا في مدرستنا الأم مدرسة الجبل فإذا بمدرسينا الأحباء يعودون عودة أخيرة الى منازلهم في المدن و القرى في لحج الخضيرة، لقد تحول منزلهم في الحي إلى طلل بعد إن كان معلما من معالم المدنية في الحي إلى جانب المدرسة و الوحدة الصحية و الطريق و النادي الثقافي، لا يزال ذلك الطلل قائمًا حتى اليوم كما أظن، إلى قبل سنوات كان موجودًا لقد رأيته بنفسي، إذ كان يجب أن يتحول إلى متحف يتبع المدرسة التي أضحت اليوم مجمعًا مدرسيًا يحوي الطلاب من أول ابتدائي حتى الثالث الثانوي، و كل معلميها من أبناء الحي و لكن التعليم لم يكن مثل زمان، و قل للزمان ارجع يا زمان!
مرَّ ذلك العام شاحبًا مفجوعًا على فراق الأحبة، موادًا درسنا  بعمق وموادًا لم ندرَّسها حق الدراسة رغم الحرص من قبل الادارة والمعلمين والطلاب ومسؤولي التربية ولكن الفراغ الذي خلفه المعلمون المنتقلون كان واسعا.
وعند  منتصف الفصل الثاني جاءت الكتب المدرسية فانكببنا عليها مذاكرين بشغف و خوف من الامتحان الوزاري في نهاية العام، و بعد تلك المعمعة و القلق تمَّ كل شيء وتحول إلى ذكريات.
و عند مطلع العام الدراسي التالي وجدنا أنفسنا في الحبيلين مطبرين أربع مرات في اليوم؛  طابور القُراع  والطابور المدرسي وطابور الغداء  وطابور العشاء ، و كذا طوابير متفرقة أخرى كطابور الماء و طابور حيدرة -رحمه الله- الذي يبيع الخبز ؛ ولا يوجد طابور على الحمامات اذ لا توجد حمامات أصلًا و الجميع يذهب الى الوادي الذي خلف القسم الداخلي ليقضِ حاجته .

لا يزال يتذكر حياة القسم الداخلي، الفرشان و المخد و الطوابير و صحون الأكل و غير ذلك، كانت حياتهم جديدة!  هنالك تلفزيون في القسم الداخلي صغيرة شاشته أبيض وأسود، كان ذلك هو أول تلفزيون يعرفه صاحبي وكذلك كثير من الطلاب كانوا مثل صاحبي ؛ كان في القسم الداخلي  ثانوية الشهيد لبوزة في الحبيلين، لجنة مسؤولة على التلفزيون نشاهده في ساعات محددة من المساء، فتلفزيون عدن نفسه كان يبثُ من الرابعة عصرًا حتى قبيل منتصف الليل و كان نصيبنا من تلك الساعات ساعات محددة لنشاهد هذا الشيء الغريب عنا، حتى الكهرباء في تلك المدينة ليست على مدار 24 ساعة بل كانت محطتها تشتغل مغربًا و تتوقف قبيل منتصف الليل، ليسَ ثمةً مراوح في الغرف الكبيرة المخصصة لسكن الطلاب، كان الجو مناسبًا  إلى حد ما ففي الشتاء كان أقرب الى البرد و أما في الصيف فكان حاراً وكنا ليلا  نصعد  إلى السقوف و ننام هنالك قبل أن ينسلخ الفصل الثاني من العام الدراسي في يونيو من كل عام فنعود إلى قرانا بفرحة عارمة .
جميلة هي تلك الذكريات، هكذا نراها اليوم لكننا حين عشناها كنا نعاني منها و لم نكن راضين عن تلك العيشة، كنا نراها بائسة و نتبرَّم منها و نشكو...