آخر تحديث :الأربعاء-18 سبتمبر 2024-04:19م


بين المصحّة والمؤسسة

الأربعاء - 31 يناير 2024 - الساعة 09:43 ص

د. عبدالعزيز صالح المحوري
بقلم: د. عبدالعزيز صالح المحوري
- ارشيف الكاتب




قبل عام 90، اتخذ الناس -في الجنوب- تدابير حازمة وإجراءات صارمة ضد الأفراد الذين تظهر عليهم أعراض الحالات النفسية، أو بمعنى أدق بوادر الجنان، وذلك نتيجة لقوانين النظام الصارمة في تلك الفترة وتجنباً للإشكالات التي قد يسببها هؤلاء في المجتمع -عافانا الله وإياكم وأجارنا من الجنون وسيئ الأسقام-. فمع بداية رصد التصرفات غير المألوفة يبدأ الأهل بمتابعتهم المستمرة وتشديد الرقابة عليهم وتضييق حدود مساحة التجوال، لينتهي الأمر - في حال ازدياد وضعهم سوءاً ووضوح الاختلال في قواهم العقلية - بربطهم بالحبال وتكبيلهم بالسلاسل الحديدية وفي أسوأ الأحوال يتم سجنهم في غرفة بباب مغلق ونافذة وحيدة مفتوحة لتموينهم بالماء والغذاء. هذه الخطوات برغم مافيها من الظلم والقساوة إلا أنها أسهمت بشكل أو بآخر في الحد من تفشي هذه الفئة في المجتمع أو على الأقل في الحد من انتشارها في الأسواق والأماكن العامة.

الصدمات العاطفية المؤلمة والعوامل الوراثية وحتى مضاعفات بعض الأمراض العضوية قد تسهم في خلق الاضطرابات النفسية كالقلق والتوتر والانطواء والخوف وصولاً في نهاية المطاف إلى الاضطراب العقلي. وكما قلنا، فقبل الوحدة كان الأفراد ومع أول عارض للاضطراب السيكولوجي، يبدأون بالمقاومة والكفاح؛ فهم يدركون أن هذه الهواجس ستكلفهم وستسلبهم الكثير وأن نهاية الاستسلام وحيدة وأكيدة؛ فإما سلسلة أو غرفة مغلقة. لذا، تنتفض عقولهم ضد مشاعر التأزم النفسية التي يعانون منها، فينتصرون.

في الشمال، الوضع يختلف تماماً، فالمضطربون نفسياً لا يكابدون العناء الذي يجده أقرانهم الجنوبيون؛ فلديهم هناك قدر كبير من الحرية ونطاق واسع من الاستقلال، فلا حظر يصدهم ولا منع يردهم. تجدهم حتى في عاصمة البلاد، يتجولون في أسواقها وينامون في شوارعها. يتعاطون القات؛ فيسهم في احتواء الاضطراب النفسي وتكبيله طوال النهار، ومع أن انتهاء مفعول القات يعيد الاضطراب المكبوت بأثر رجعي فيكون أكثر شدة وضراوة، إلا أن ذلك يحدث في أواخر الليل، حيث تكون الأماكن العامة خالية تقريبا من الناس، فيقتصر دورهم على الصراخ وإحداث بعض الضوضاء التي عرفها وألفها القاطنون؛ فصار هناك تقبل مجتمعي لهذه الفئة.

بعد 90، تخطت هذه الطائفة -التي في الشمال- جغرافية وطنها؛ فتجد أحدهم من شمال الشمال يطوف القرى في أقصى الجنوب، حتى أن مجنون القرية يستغرب، لا أدري -صراحةً- كيف يحصل ذلك ولكن أظن أنهم يفهمون بعضهم. المهم، أن المقيم يندهش من الحرية والصلاحيات التي يتمتع بها الأخ الزائر، فيشعر بالاستبداد والظلم.
الثابت هنا أن نظرة المجتمع الجنوبي وسلوكه تجاه هذه الفئة تغير، لذلك تبدلت أحوالهم وتحسن وضعهم بل وتعافى الكثير منهم؛ فالمجنون قد يعقل بلا ريب، ففي الحديث الشريف (والمجنون حتى يعقل).

ليس غريباً أن يستعيد المجنون عافيته ورشده ويذوب في المجتمع ويمارس وظيفته بشكل طبيعي وتام، ولكن الغريب والمدهش والمحير أن يترقى -العائد من الجنان- في المناصب والمراكز ويصبح -على حين غفلة من الزمان- رئيس أعلى هيئة أكاديمية في محافظته.

لحظة غضب واحدة كفيلة بهز متارس الصدمة القديمة وإخراج الوحش السابت من مرقده، ونوبة انفعال وحيدة مخولة بدك معاقل الرشد وهد حصون التعقل وهدم جسور التبصر عن بكرة أبيها وبعير أمها، وجديرة بتسوية كل شيء بقاع الارض؛ فلا تبقي ولا تذر.

من الظلم - فعلاً- أن فاقد العقل بالأمس يكون اليوم رئيساً للفئة التي تمثل عقل المجتمع ومحياه، ومن الضيم والجور أن يجد الأكاديميون أنفسهم في مواجهة من لن يتوانى عن كيل السب والشتائم في وجوههم إن أغاضوه.

من حسن حظ بعض القوم أن جنانهم تأخر؛ فلو أنه سبق أوانه وبزغ في عصر الحزم والعزم الاشتراكي لربما كانوا مربوطين وإلى اليوم بجذع نخلة في ناحية من النواحي التي لا تبعد كثيراً عن المدينة.