آخر تحديث :الأحد-28 أبريل 2024-01:52م

ما هي الجنوب التي يبحث عنها الجنوبيون ؟

الجمعة - 19 يناير 2024 - الساعة 03:50 م

مطلوب العود
بقلم: مطلوب العود
- ارشيف الكاتب


هل هي الإلدورادو مدينة الذهب، ام هي إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، أم بلادٌ لا يوجد بها فقرٌ وفقراء.؟!

سأخبركم ما هي الجنوب مثلما حُدثت عنها من شخصٍ عرف كُنهها وماهيتها.!

حدثني أحد طليعة المناضلين الذين هتفوا بأسم القضية الجنوبية، شخص من أوائل الذين نهجوا نهج الكفاح المسلح، بعد النضال السلمي الذي مارسوه فترة طويلة في الساحات الوطنية وهم يلفون شوارع المدن وأزقتها بلافتات بها شعارات تطالب بعودة الجنوب، وخيراته وتاريخه التليد.

شخصٌ ممن سخروا أنفسهم وكل ما يملكونه لأجل هذه القضية، وهذا الشخص ليس بمغمور ولا خامل الذكر في فترة نضاله، فقد كان أحد أبرز القيادات في تلك الفترة

ولكن لم يحدثني في ذلك الحين، أو ذلك الوقت الذي كان يمارس به نشاطه كمناضل لاستعادة دولة الجنوب، بل حدثني قبل مدةٍ قصيرة من الآن، أي بعد تجريده من المناصب والمهام التي تقلدها أو تولاها بنضاله المشهود له به، وبمعنى أوضح حدثني وهو كأحد العامة لا منصب ولا صفة.

الحديث كان مع هذا الشخص في أحد المقاهي عندما كنا نشرب الشاي ونتجاذب أطراف الحديث، حول الأوضاع الراهنة وما يدور في المناطق المحررة من تجاوزات لبعض القيادات العسكرية التي لا تؤمن بالنظام والقانون ولا تمتثل له، بأساليب تندرج ضمن إطار العبثية واللادولة.

ولمعرفتي به وما يحمل في داخله من هم للقضية الجنوبية، سألته عن أمر هذه القضية، وهل سيعود الجنوب فعلاً، وهل المستجدات الأخيرة تنبئ باستعادة الجنوب أم أن هذا حلم لن يتحقق ما دمنا نمشي على هذا النسق وهذا المنوال.

فصمت لحظة قصيرة يستحضر أحداث موقفٍ حصل معه وهو مسؤول عن أحد مراكز الشرطة، بعد دحر قوات الأمن المركزي التي كانت مسيطرة على محافظة عدن آن ذاك، بقيادة العميد عبدالحافظ السقاف.

قال: حدث معي موقف أنار بصيرتي لطريق عودة الجنوب لم أنسه قط، ولازلت أتذكره كلما سألني أحدٌ عن أوضاع الجنوب، وهو في صباح أحد الأيام حينما كنت مسؤول على أحد مراكز شرطة في عدن، وبينما انا في مكتبي متكئ على المنضدة ممسكا بسماعة الهاتف أتحدث مع أحد القيادات الجنوبية في محافظة أبين، سمعت جلبة وصياح أمام بوابة الشرطة كسائر الأيام، ولكن هذه الضوضاء كانت مختلفه بعض الشيء، ففيها نبرة أنثوية بصوتٍ ذليق، حتى أقبل علي حارس البوابة يستأذن لامرأة في العقد ثالث تريد مقابلتي، فأخبرته بأن يسألها ماذا تريد؟.

فقال: حارس البوبة بأنها رافضة ان تخبره بشيء وتريدني انا شخصياً!.

فأذنت له بأن يدخلها، فلما أتت باشرتني بسؤال عفوي وفيه بعض الحدة:
"أنتوا أصحاب الجنوب"؟!

فقلت لها: بل نحن من سيعيد الجنوب!

فقالت بلكنتها العامية: "طيب رجعوا فستاني بالأول وبعدين شوفوا كيف باترجعوا الجنوب"؟!.

انا استغربت واندهشت وتلعثمت: "أيش من فستان وأيش في وأيش تشتي انتي الأن"؟!.

قالت: "يافندم أنا أجيت أحضر عرس عند ناس من جماعتنا، وتطفلوا على شنطتي ونعثروا الي فيبها وسرقوا فستاني؟!،  ماركة جون سينا، نوع كاكي، وكذا وكذا"

فأخذت تشرح لي من بداية حضورها بأسهاب وتفصيلٍ ممل، ولم تدع شاردةً ولا واردة إلا أحصتها.
وانا منصت أتفكر ليس في ثرثرتها -التي بدت لي كثرثرة، كون هذا (العمل الأمني) ليس عملي ولم امارسه قط ولن أصل لمكاتبه أبداً، لولا أن الأوضاع فرضتني آن ذاك - بل كنت أتفكر وأقول في نفسي نحن هنا لإعادة الجنوب وليس لإعادة فساتين ما هذه التفاهات، نحن قضيتنا كبيرة جداً، ولن نشغل أنفسنا بهكذا قضايا تافهة.

فقاطعتها بازدراءٍ وتهكم: "ييييي كم قيمة فستانش"؟
ناوٍ أدفع لها قيمته وتعفينا عن التحقيق في هذه القضية، التي أغلب القضايا مشابهة لها وتافهة مثل ما رأيناها ويراها العامة، بعكس ما يراها الرجل الأمني الذي تخصص وأخذ دورات في هذا المجال.
فقالت: "فستاني مافي مثله بعدن واني أشتي فستاني هوه، لأنه ماركة جون سينا"
وأرادت ان تعيد نفس الكلام وتعدد مواصفات فستانها، وما إلى ذلك.
فقاطعتها مرةً أخرى: "يا عسكري تعال خرج من عندي هذي إحنا جينا نرجع الجنوب ولا نرجع فساتين"؟!.

فأتى المجند لأخرجها فخرجت قانطةً يعتريها اليأس والخذلان، وهي ترطن بكلام وعبارات لم أفهم منها سوى هذه الجملة التي لم أنسها قط مثل ما أخبرتك انفاً.
قائلةً: " وربي اذا ماترجعوا فستاني ما ترجعوا الجنوب يا ميلشيات يا سرق يالي كل همكم تعبوا كروشكم".

فخرجت ولم أعرها أهتمام كسائر الذين انصرفوا قبلها من إدارة الأمن مخذولين بقاضاياهم التي رأيناها حقيرة ولا تستاهل ان نلتفلت إليها، لانشغالنا بالقضية الأم التي يجب أن نعيرها أهمية قصوى، ونسخر كل نفوذنا لأجلها فقط( القضية الجنوبية).

ومنذ ذلك اليوم الذي لم نكلف فيه أنفسنا لإعادة فستان المرأة، أو نأخذ بلاغها على محمل الجد، حين كان بالنسبة لها أكبر قضية على وجه الأرض؛ ونحن لم نستطع أن نعيد الجنوب، ولا حتى إبقاء من كان يسعى معنا لإعادة الجنوب، على نفس الرغبة والحماس في السعي الذي كان به قبل أن نمسك بزمام الأمور، بل تنافرت الناس من حولنا وكرهوا هذه القضية التي هتفوا بها ذات حين، لاستصغارنا لمشاكلهم وتركهم يتناحرون في ما بينهم بحجة أننا مشغولون بالقضية الجنوبية التي توارت واندثرت خلف غمرة هذه القضايا التي لم نعرها اهتمام.

ولذلك علمت وتعلمت من حديث تلك المرأة التي ربطت عودة الجنوب بعودة بفستانها، إن الجنوب الذي يطالب به الناس ويبحثون عنه، ليس قطعة أرض لها حدود وسياج يعترف بها دولياً كدولة، ولا اجتماعات مغلقة، ولا قرارات وثرثرة في القنوات الفضائية والجرائد الورقية.

بل النظام والقانون الذي افتقدوه بعد الوحدة، النظام والقانون الذي كان يكفل لهم حقوقهم، ويحفظ لهم ممتلكاتهم، حيثما كانت وكيفما كانت ثمينةً أم رخيصة غثةً أم سمينة، رثةً أم جديدة، النظام الذي جعل على ممتلكاهم وأرواحهم خطاً أحمر، النظام والقانون الذي دعَّم قوائم الأمن والاستقرار، وساوى بين الناس وجعلهم سواسية كأسنان المشط، ولم يميز بين مُعسرٍ ولا ميسور، ولا شريفٍ ولا محقور، ولا ذي نفوذٍ ولا مغمور، النظام والقانون الذي لم يترك الضعيف عرضة للاضطهاد والقهر من قبل الجبابرة الظالمين، بل كان سنداً لهم يحتمون به من كل ذي جاهٍ وسلطان.

هذا هو الجنوب الذي تنشده الناس وتطالب بعودته، وليس أشخاص كل همهم ارتداء البدل والكرفتات التي تبهر الناظرين بتفصيلها المتناسق مع كروشهم المدلاة التي تخفي الأموال العامة، ويغضون الطرف عن مشاكلهم التي يرونها حقيرة، ولا يكلفون أنفسهم حتى في النقاش فيها، كونهم مشغولين بالقضية التي لا يسعها ملف، تاركين الواقع للأقوى وكأننا في غابة تكتنفها الكواسر والوحوش الضارية.