آخر تحديث :الأربعاء-18 سبتمبر 2024-04:19م


انتكاسة مبادئ

الجمعة - 19 يناير 2024 - الساعة 02:20 م

د. عبدالعزيز صالح المحوري
بقلم: د. عبدالعزيز صالح المحوري
- ارشيف الكاتب


ميل الإنسان إلى الاقتداء والتأسي هو أمر فطري وسلوك تلقائي لايحتاج إلى خبرة أو معرفة؛ فمشاعر الأفراد الحسنة نحو البعض كالحب والإعجاب والمودة والثقة تجعل من هؤلاء عينة اقتداء وأنموذج تأسي، فيشكل الأفراد سلوكياتهم ويسوون قناعاتهم ويطوعون معتقداتهم على غرار المقتدى به. لذا، فكثير من السلوكيات والقيم هي حصيلة الاحتذاء بأشخاص آخرين، متواجدين وحاضرين في زمن الأفراد أو في زمن مختلف وعهد آخر.
وبغض الطرف عن أسس الاتباع ونظم الانتهاج، تنشأ قناعات راسخة ومعتقدات أزلية، كما يعتاد الإنسان سلوكيات وتصرفات وردود فعل يتطبعها فتصير طبعاً... "مع تجاوزنا للنقاش الديني حول ثنائية الخير والشر وما إذا كان الطبع قد ولد مع الإنسان أو تطبع عليه"، فتعديل السلوكيات وتكييف القناعات والمبادئ وتشكيلها ليس أمراً فورياً ولا انتقالاً لحظياً أو تحولاً يحدث بين عشية وضحاها، وإنما يتطلب الأمر الكثير من الوقت؛ فالشأن يبدأ صغيراً على هيئة ميل أو رغبة أو ألفة، تكبر وتنضج مع المدى لتغدو طابعاً وامتيازاً. وقد تميز الإنسان العربي منذ القدم بثباته على مبادئه واستماتته على قيمه، ثم اصطفاه الله بالإسلام وشرفه بالتأسي برسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- والذي يمثل نموذجاُ للكمال الإنساني؛ فازداد العربي ثباتاً على ثبات وصلابة على صلابة.
وكما أن لكل قاعدة استثناءات فهناك أقوام في كل التاريخ العربي والإسلامي مهما تأسوا واقتدوا تظل قيمهم رخوة وهشة. تطوع المصلحة كل صلب فيهم وتلين المنفعة كل قاسي؛ فتعوَجَُ مبادؤهم وتتقوس قناعاتهم، وتندثر سنون الاقتداء ودهور الاقتفاء في ساعة.

يلجأ البعض إلى خلق توازن بين المبادئ والمصالح، فلا ضير أن يقدم الآدمي شيئا من التنازل عن مبادئة مقابل تحقيق مصلحة وضمان منفعة، فالقيم -في ثقافة هؤلاء- تميل فقط ولكنها لا تقع، ولا جرم أن تنحني قيمهم قليلاً ليرتقي أمرهم ويعلو شأنهم، فعند تغليب المصالح الشخصية وتقديم المنافع الخاصة تتحطم المبادئ وتتكسر القناعات؛ فتنعكس الوضعيات في لحظة وتتغير الاتجاهات في غمضة عين؛ فيغدو المناوئ مناهضاً ويصبح الجلاد من أصحاب القضية.

مبادىء الرجال وكرامتهم وشرفهم لاتقبض عصاها من المنتصف لتبقى الأمور متزنة، فهي قائمة لاتقبل السدح وواقفة لاترتضي البطح، لاتميل ولاتنحني؛ فإما أن تظل ثابتة أو تسقط.
إذا كسرت لاتجبر وإذا تحطمت لاترمم ولا تصلح، فقطَعها ليس لها أبدال وأجزاؤها لاتباع تشليح في الأسواق. هي انحيازية غير حيادية، متعصبة غير متسامحة، وفيها -فقط- تكون الأمة الوسطية متطرفة.

حين تسمع أن قائد عسكري وقف ضد إحدى الجماعات وحاربها ثم وقف معها وآزرها ثم أعاد حرف بوصلة موقفه ضدها؛ فستعلم إن البلاد تعاني من انتكاسة مبادئ وأزمة قيم.

عندما يستغل أحد ملاك المؤسسات الأكاديمية سلطته ليحرم المؤسسه من أكثر من عشرين ندوة ودورة بحجة أنها تحت رعاية طائفة معينة -مع أن المؤسسة الأم قد استضافت الكثير منها تحت رعاية هذه الطائفة- ثم يقدم هذا الشخص نفسه كمرشح في انتخابات تخص نفس الطائفة لشغل أحد المناصب فيها؛ فستدرك حينها بأن الدروب ليس فيها لوحات إرشادية وأن الطرق بلا مفترق وأن على الكرام السلام.