آخر تحديث :السبت-27 أبريل 2024-11:53م

العبور الى غزة

الإثنين - 08 يناير 2024 - الساعة 12:45 م

احمد الجعشاني
بقلم: احمد الجعشاني
- ارشيف الكاتب


في الصباح الباكر وقبل أن تفرط الشمس أشعتها الحارة ، توقفت الحافلة عند النقطة الاولى لمعبر الدخول الى غزة ، عشرون عاما مضت منذوا أن غادر أياد غزة ، هي المرة الاولى للعودة الى مهد الصبأ ، كان أياد مغمضا عينيه مطبق جفنه ، وقد داعبه الشوق والحنين الى حضن أمه الى بيته وطنه ، أقتربت المسافة ولم يعد بينه وبين غزة سوى الخروج من هذا الحاجز المغلق في المعبر ، زحمه كبيرة وعشرات الحافلات تقف طابور طويل عند الحاجز ، علق أحد الركاب ساخرا من هذا الازدحام ومماطلة وتعسف جنود الاحتلال قائلا هنا يتوقف الزمن ، عاد أياد الى وضعه مغمض عينيه ومطبق جفنه ، استعاد من مخيلته صورا قديمه له في غزه ، تحت شجرة الزيتون كنا صغار نلعب في دائرة ثم ندور مرات ومرات ، مثل حمار عمي زهير وهو يدور ويلف على الجاروشة كسارة حبات الزيتون ، لازال أياد مغمضا عينيه للحظات ثم تتحرك جفنه لتنفتح قليلا ، ثم يعادو أغلاقها مستلهما منها القليل من الاشياء التي لا زالت تختبئ في ذاكرته ، يترأئ له عمق الماضي في قريته الصغيرة في غزة ، تحت شجرة الزيتون في حوش البيت القديم ، حيث كنا نجلس تحت ظلها متعبين مرهقين من الدوران ، حتى تهب علينا نسائم البحر، ترفرف خصائل شعرها المنكوش فوق صدرها الذي لم ينبث فيه حبات الرمان ، يعود عمي زهير من المعصرة ممتطيا حمارا كان لونه غريبا لم يكن أسودا ولا ابيضا ، كان رمادي مثل لون الضباب عندما تذهب الشمس بعيدا خلف السياج المحيط من مزرعتنا ، عندها ينزل الماء من تلك الغيمة السوداء فوقنا ، نجلس تحتها ونطرطش بالماء الراسب تحتها ، فتطل علينا عمتي تصيح فينا غاضبة وبيدها غصنا طريا من شجرة الزيتون تلوح به أشارة منها بالضرب ، أدخلوا يامفاعيص البلاء لتصابوا بالحمى والبرد .

يمضى النهار بطيئا يسحب معه قرص الشمس الوهج ، فيعقبه الليل بظلامه السديم في هذا الحاجز الملعون الذي يفصل غزة عن العالم ،ضجر أياد من جلوسه منتظرا فوق الحافله ، منذوا ساعات قرب الحاجز الأمني في المعبر ، وهو مغمضا عينيه مطبقا جفنه عليها و يحدث نفسه ، يالها من رحلة طويلة قبل يومين فقط كنت في مطار الرياض ، كلهم طلبوا مني ذلك أبي وأمي وعمي وعمتي في غزة ، لم اعد أذكر الكثير من ملامح وجهها ، لكني لم أنسى عيناها العسليه كان مثل لون شعرها الاصفر البني الداكن ،كنا صغار ونحن نستبق ونجري الى المزرعة ، غابة كثيفه من أشجار الزيتون ذات أوراق مستلقية تبللها زخات تهطل من السماء ، كما تبلل شعرها البني فيميل على كتفها وتلتصق خصلات شعرها الناعمه على خدودها المحمره ، فتبدوا مثل حورية جأت من البحور السبعة .

توقفت الحافلة أمام الحاجز في المعبر ، أسلاك شأئكه وتحصينات الجيوش المتحاربة ، تفتيش دقيق ومرهق من أفراد جيش الاحتلال ، كلاب مدربة يتبعها الجنود تتشمم المبعدعين عن غزة ورجال المقاومه ، لازال الحصار قائم منذوا سنوات الكل يدخل بتصريح ويخرج بتصريح ، أن تعود الى بيتك الى اهللك وبلدك الى ارضك التى نشأت فيها ، تحتاج منهم إلى أذن دخول وتصريح ، مغلوبين على أمرنا نموت فيها كل يوم ، كما نحيا فيها كل يوم ، لم تعد أصوات القنابل والصواريخ تفزعنا ، تمر علينا كصواعق الشتاء حين ينهال المطر فوقنا ، كنت أكتم الأنفاس وأنا في حضن أمي ، فأسمع وقع خطوات الاقدام الحديديه تجوب في غرفنا ، تفتش تحطم كل شئ يتركون الخراب بعدهم ، يحدث هذا في الحرب لكن غزة كل يوم حرب هي دائما حرب لاتتوقف ، قدرنا أن نولد ونعيش ونموت في الحرب ، ممزقين مبعدين وأشلاء مبعثرة على الارض ، لكننا نعود نحيا كل يوم وكأن الارض تنبت أبنائها من جديد .

عدل أياد من جلوسه ودنئ براسه من زجاج النافذة، سمع صراخ الاطفال ونساء يبكون ويتشاجرون مع عسكر الاحتلال ، رأى منظرا مقززا الى نفسه عائلة كامله بنسائها وأطفالها ينزلون من الحافله ، بكاء النساء وعويل ألاطفال وصياحهم لن يجدي نفعا أمام عسكر الاحتلال، ربما لم تكتمل الاوراق الخاصة بهم وتصاريح الدخول لديهم ، أو أن أسم العائله من أسماء المبعدين عن غزة ، لا أعرف كيف يبعد المواطن عن وطنه لمجرد أنه أحب وطنه ، نظام قمع جديد أستخدمته سلطة الاحتلال في غزة ووافقه العالم فيه ، هكذا هم يشكون في كل شئ الخوف يهزمهم ، ولا شئ غير الخوف يهزمهم .

عاد أياد واغمض عينيه وأطبق جفنه ، ياترى كيف أصبحت ألان بعد كل هذه السنوات، هل نضجت حبتي الرمان في صدرها ، وتفتح جسمها الناصع البياض ولون شعرها الذهبي هل لازال مثل لون عينيها العسلية، اتذكر ابتسامتها العذبة تسحرني وهي تقضم حبة الزيتون بفمها الصغير ، من يبالي ألان أن كنا مغرمين أو لا ، لقد مضت سنوات طويله منذوا أفتراقنا ، من يبالي رغم الحرب التى لم تتوقف رغم الجروح والحزن الدائم لازلنا في انتظارها ، ذهبت السنوات ومضت ألايام معها ولازالت أيام العرس في غزة هي هيا كنت أفرح واشدوا الاهازيج معها فهي لم تنتقطع أبدا ، ترقص النساء الدبكه كنا يقفن في صفا واحدا ملتحمات الايادي يظربون ألارض بأرجلهن ، نحن هنا فتستجيب الارض لهن .

كان صوت الكلاب أهوج وقوي ويسعر كأنها قادمه الى معركه ، فتح أياد عينه المغلقة رأى الجنود يصعدون الحافلة يتقدمهم الكلاب المدربه ، أمرنا الجندي الاسرائيلي الواقف في الباب الخلفي ، أن ننزل واحدا تلوا ألاخر دون ألامتعه والحقائب عدأ جوازات السفر وتصاريح الدخول فقط ، ما أن نزلنا من الحافلة ركضت الكلاب تطوف وتجوب حول الحقائب والامتعة، بينما نحن تحت وقفنا في طابور طويل للتفتيش جسماني دقيق ، بعدها لم يتركونا نمضي الى الحافلة ضللنا واقفين أكثر من ثلاث ساعات ننتظر، لم يتركوا مسمارا في الحافلة حتى تحشر الكلاب أنفها فيه ، وتنزل وتطلع بحثا عن أي شئ يخالف قوانينها ونظامها ، أرهقنا وتعبنا من الوقوف فجلست النساء والاطفال على الارض ، فجاء الجندي الإسرائيلي مشيرا بيده الى أياد طلب جواز السفر والتصريح ، ناوله أياد جواز سفره وتصريح الدخول ، سمح للبقية الركاب بالعودة الى الحافلة فردا فردا ، كنت منهكا متعبا من الوقوف ، حتى عاد الجندي مرة أخرى أشار بيده الى أياد بأن يتبعه ، قال له الجندي ألست أنت الكاتب أياد ، نظر أياد اليه متعجبا اليه ، قال الجندي لايمكنك الدخول الى غزة .. أنت من ضمن المبعدين من الدخول الى غزة .