آخر تحديث :الأربعاء-18 سبتمبر 2024-04:30م


دولة القصر

الجمعة - 29 ديسمبر 2023 - الساعة 03:23 م

د. عبدالعزيز صالح المحوري
بقلم: د. عبدالعزيز صالح المحوري
- ارشيف الكاتب


الحرب التي سببها اعتباطي ونهجها فجائي وغير مدروس ومداها مستصعب تكهنه وهدفها انتقامي متغير تبعاً والمرحلة هي عبثية، عشوائية وكارثية على مختلف الأصعدة والمجالات، تهلك الحرث والنسل وتدمر اللحمة والنسيج الاجتماعي والوطني.
فتنشئ حملاً ثقيلاً وعبئاً لايطاق على كاهل الدولة فتختل الموازين وتضطرب المقاييس فتلين عصا الدولة وتتهاوى كفة القانون والنظام وترجح الفوضى والعشوائية، فتختلط المفاهيم وتتشابك المسميات وتنقشع الستارة بين الفضيلة والرذيلة فيتقمص الباطل إزار الحق ويتوشح الضلال رداء الهدى.

تتحطم القيود الاجتماعية وتنهار الحواجز الثقافية والفكرية ليجد معزولو الحضور والفكر ومنفصمو الشخصيات وأصحاب الكبت والرهاب الاجتماعيين طرق وجسور ومساحات عبور؛ ففجائية التغير في الواقع تحدث لهؤلاء صدمة نفسية وعاطفية بل وصدمة حتى في ثقافة واقعهم؛ فيتغيرون سيكولوجياً ويتبدل سلوكهم وفكرهم حول المجتمع والحياة.

مشاعر الدونية والنقص والحرمان التي كبلتهم ردحاً من الزمن تفقد حضورها وسيطرتها بسبب الصدمة فتتملكهم عقد النرجسية والظهور، وقد يصل الأمر تبعاً وحالة الأسى التي كانوا يشعرون بها إلى الساديزم وكراهية برجوديس.

يبزغ فجرهم وتشرق شمسهم فالمرحلة مرحلتهم والوقت وقتهم؛ فيسيطرون على المناصب والمراكز مهراً لنضال الشرفاء وثمناً لتضحيات الأبطال.
يتكيفون مع الواقع ويتأقلمون مع تقلباته بمهارة وسرعة عجيبتين؛ فيتجاوزون وقتهم ويسبقون زمنهم في الرقي والصعود، ليس لأنهم يحسنون استغلال الفرص بل لأنهم من يوجدها ويستغلها. فبين عشية وضحاها يصبح العاطلون ذوي مراكز وسلطة وأصحاب مصالح ونفوذ، مسيئون لمجتمع يرون بأنه أسأء لهم، كرماء ومحسنون مع من هم على شاكلتهم.

في دولة القصر، تعتمد مكاسب الإنسان على إنسان آخر وتكون السلطة لعبة ومهارة اجتماعية، والتفاوض والمقايضة هما أبرز فنون الإدارة... في دولتهم، تشطب معايير الكفاءة ويخدش حسن السلوك وتمنع الموانع الجنائية والقضائية فالكل -بلا إقصاء ولا استثناء- مؤهلاً للمراكز القيادية.
التطبيل، التمجيد، التجانس، التعارف، الاقتران، الصحبة والقرابة كلها معايير مثلى وناجحة -في دولتهم- للتعيين والتأهيل والترقي؛ فالقتلة وقطاع الطرق والمنحلون أخلاقيا وذوو السوابق -اليوم- مدراء دوائر وجنرالات وعمداء كليات ومراكز ورؤساء مؤسسات.

عشوائية المرحلة واختلاط الأحداث أفقدت كل ذي لبٍ لبه وكل ذي حولٍ قوته، فخارت العزائم وشاخت الهمم وأصيب ذوو الكفاءات والخبرات من أهل المروءة والشرف بوعكة اللامبالاة والتبلد وتستروا بغطاء الإحجام والانكفاء فأصبح الآمر ماموراً والمتبوع تابعاً.
لا يقوون على صد الباطل ولا ردع الفساد ولايجرؤون على الاستنكار أو الشجب؛ فقد أطفأت المرحلة ألقهم وأضعفت كل قوة فيهم، حتى إيمانهم؛ فالقلوب وحدها رافضة ومناهضة.