آخر تحديث :الأربعاء-18 سبتمبر 2024-04:19م


دين الأمة وعقولها

الثلاثاء - 19 ديسمبر 2023 - الساعة 06:48 م

د. عبدالعزيز صالح المحوري
بقلم: د. عبدالعزيز صالح المحوري
- ارشيف الكاتب


اجتبى الله الإنسان وميزه ليكون خليفته في الأرض؛ فأحسن خلقه وتقويمه، ووهبه طاقات جسدية وقوى عقلية وقدرات نفسية تؤازر وتعاضد وتحفز بعضها في ترابط محكم واتساق مثالي وتتناغم تام؛ فهو مهتد مهيأ لمعرفة الله وعبادته، فضولي للتساؤل والعلم، طموع للسعي وطموح للعمارة والحضارة؛ فقد خلق في أحسن تقويم لهذه الخلافة.

المدى الممكن والحيز المتاح لنتاج وحصالة قدرات الإنسان المختلفة هائل وإيجابي، مادامت هذه القدرات تترافق بسلامة وتوافق.
اختلال هذه القدرات والقوى يعني اختلال سير الإنسان في الدرب الذي خلق لأجله، ويصل في أشقى الأحوال إلى خروجه عن هذا الدرب؛ فهو في أسفل سافلين. وأي مقام أسفل من اختلال العقول وجهلها وكفرها بخالقها؟

القدر الأكبر من تأثير اضطراب القوى الجسدية والنفسية مسلط على صاحبها، على خلاف مرض العقل؛ فيغزو عقولاً كثيرة وقلوباً شتى.
خلق الناس بفروق في القوى والقدرات -لاسيما العقلية منها- فأفكارهم ورؤاهم مختلفة ومتفاوتة، وعدم رؤية الفرد وإداركه ما رآه وأدركه غيره لا يعد نقصاً فيه ولا كمالاً فيهم، لكن تحجيم وتسفيه علم الآخرين وفكرهم بلا سلطان غير الجهالة هو النقص والجهالة بعينها؛ فما للعلم من سلطان ولا حجة في قمع العقول التي حباها الله وأوجدها لتفكر وتعلم وترتقي.

اعتبر رجال الدين في هذه الأمة غالبية العلوم الإنسانية ضلالاً، فنتاج العقل البشري واكتشافه ليس من الدين في شيء، بل هي علوم معارضة لدين الله مخالفة لكلامه.
فالدين هو ما فهمه ونقله السابقون عن كتاب الله -جل وعلا- وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ فحبسوا العقل وأخذوا بالنقل وأسهبوا في مسائل الخلاف؛ فألفوا الكتب والأسفار في ذلك، فكلما برز عالم أدلى بدلوه مؤيداً هذا ومخالفاً ذاك، مع علمه أن رأيه لن يجمع الأمة بل يزيد الخلاف تأصلاً ورسوخاً، ويقينه أن ما اختلف فيه السابقون سيختلف فيه اللاحقون وسيظل حتى قبيل الساعة خلافاً، ولكن ما تخطى النقل والنسخ وفلسفة الخلاف من علم لا يرونه إلا ضلالاً وكفراً بواحاً مخالفاً لكلام الله ودينه.

أصبح رجال الدين مصدر التشريع الثالث بعد الكتاب والسنة من خلال فرض الإجماع، وأصبحت السلطة الدينية في المستوى الثاني بعد السياسية على خلاف الكنيسة المسيحية التي كانت سلطوية بالدرجة الأولى؛ فشرع علماؤنا إلى احتكار العلم، بنفس النهج الذي مارسه قبلهم معظم رجال الدين عبر تاريخ البشرية كله باستثناء الإغريق والرومان قبل أن تدخلها المسيحية؛ فالحساب والطب وتعلم بعض الصنعات التي يحتاجها الناس هي -فقط- المجازة تعلماً إلى جانب العلوم الشرعية.

لم يكن العلم مخالفاً لكلام الله بل كان مخالفاّ لكلام العلماء في تأويل كلام الله؛ فما كان لعلم أوجده الله أن يخالف دينه؛ فالشاهد هنا أن العلم الذي رآه العقل البشري يخالف اجتهادات بشرية منغلقة على النقل متحاملة على العقل، رأت الحداثة الفكرية ابتداعاً والتطور العلمي انسلاخاً عن دين الله وكفراً؛ فاعتبرت الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والمنطق سحراً وشعوذة وتنجيماً وزندقة إثمها أكبر من الربا. فحاربت هذه الأمة عقولها، فقتل وسجن وطورد وشرد ونفي أصحاب العقول التي أوجدها الله وميزها وحباها بالفكر والإبداع، فكان قتلهم قرباناً وسجنهم كفاف أذى وتتبعهم سعياً ونفيهم دحر ضلالة؛ فهم ملحدون لا علماء، لحومهم مفرومة غير مسمومة.
عانت هذه الأمة كثيراً بسبب بعض الفلتات الفكرية؛ فهي لم تدرك مردودها السلبي والنكبوي إلا متأخرة، وعلى كل فالصحوة المتأخرة خير من بقائها سابتة بلا عقل ولا تفكير.
والله من وراء القصد.