آخر تحديث :الأربعاء-18 سبتمبر 2024-04:19م


امتهان الضجيج

الثلاثاء - 05 ديسمبر 2023 - الساعة 02:03 م

د. عبدالعزيز صالح المحوري
بقلم: د. عبدالعزيز صالح المحوري
- ارشيف الكاتب


يعتاد البشر أفعالهم وسلوكياتهم بناءاً على قناعات متأصلة في ذواتهم، أي عصية التغيير والتعديل؛ فتتكون وتتحدد تبعاً لتلك القناعات شخصيات الأفراد ومصائرهم.
سطحيو العلاقات الاجتماعية -مثلاً- يضعون بينهم وبين الآخرين مسافات وحواجز غير قابلة للتجاوز بسبب قناعات تختلف من أحدهم للآخر؛ فمنهم النافر، المؤمن بأن التقارب الاجتماعي سبباً لإشكالات جمة، ومنهم الحذر، المعتقد بأن المصلحة سبباً يدفع بالآخرين للتقرب منه، وغير ذلك من القناعات التي يتحدد تبعاً لها مدى مسافة العزل بينهم والآخرين.
القناعات إيمان ومصائر؛ فالإيجابيون هم حصيلة قناعات واعتقادات صحيحة وسليمة، والسلبيون نتاج كومة من القناعات والرؤى السلبية، ومصائر هؤلاء السلبيين لاتقتصر عليهم -في الغالب- بل تتعداهم لتطول محيطهم وأماكن عملهم ومجتمعهم.
الأمر الغريب والملاحظ في الوقت الراهن أن السلوكيات المبنية على قناعات غير سوية بدت وكأنها تنتقل من شخص لآخر على نحو أشبه مايكون بالعدوى.

انتشر وتكاثر -تبعا لعدوى القناعات هذا- صنف من البشر لديه اعتقاد بأن بروزه وحضوره في مواقف الحياة يكون على قدر الضوضاء والجلبة التي يحدثها؛ أي أن العلاقة بين ضجيج الشخص وظهوره طردية، فإذا كان الضجيج الذي يحدثه هذا الفرد كبيراً كان حضوره وظهوره وتأثيره كبيراً، وكلما غلب عليه الهدوء فكأن لم يكن موجوداً ولا حاضراً.

تتجلى سلوكيات هذه الفئة في أماكن الجمع كاللقاءات الأهلية والعشائرية والمؤسسية وغيرها، ويهتم هؤلاء بنجاح هذه التجمعات وتحقيق هدفها ويعنيهم أيضاً حل الإشكالات والخلافات وتقارب وجهات النظر ولكن ليس بقدرما يهمهم ويعنيهم حضورهم الفعال والبارز، فذلك هو شغلهم الشاغل وغايتهم المنشودة.
وحتى نكون منصفين، فهذه العينة ليست ضارة؛ فإزعاجهم وضجيجهم في إطار المقدور احتماله، وبالإمكان احتواؤهم وترويضهم من خلال معاملات ووسائل يعرفها أهل الرشاد من المصلحين القبليين والاجتماعيين وذوي الحنكة الإدارية، ومنها: عدم تجاوز هؤلاء القوم وإطلاعهم على كل طارئ يخص المجتمع المشترك، وإشعارهم بأن حضورهم كان ضرورة وأمراً يقف عليه الحدث وكذا إعطاؤهم مساحة وحيز كافٍ للتعبير عن آرائهم وممارسة طقوس الضجيج التي يؤمنون بها؛ فحتماً سيقتنعون بالرأي الآخر إذا تحقق هدفهم الأسمى.

المعضلة والمصيبة تكون فقط عندما يصير هذا الكائن "ممتهن الضجيج"رئيساً لمؤسسة، كأن يكون مدير إدارة، مديراً عاماً، عميد كلية أو رئيس جامعة ...الخ؛ فهنا لا تقتصر غايته على الحضور والظهور بل تتعداها إلى السلطة والهيبة وبالتالي فلن تتوقف وسيلته على الصياح والضجيج بل ستغدو لجباً وزعيقاً ودوياً وضجة.

ليس للثواب وجودٌ في قاموس هذا الآدمي، فلايؤمن غير بالعقاب ويرى أن سلطته وتسلطه لاتتحقق إلا بالصجيج والرجيج، فيحول المؤسسة إلى ساحة اتهامات ومحاكمات؛ فالمخالف لقوانينه جاني، وصاحب العذر مدان، فيصل إلى مرحلة يعجز فيها عن إيقاف ذاته؛ فتراه يداهم مكاتب الموظفين بشكل لايختلف كثيراً عن المداهمات العسكرية إلا بانعدام السلاح. إذا استمر هذا المخلوق لفترة أطول فسيتطور الأمر إلى اعتقالات وسجون سرية واختفاء موظفين في ظروف غامضة، خصوصاً مع الوضع الحالي للبلاد والذي أوجد لنا مثل هذه المسوخ.