آخر تحديث :الأربعاء-08 مايو 2024-03:21ص

الوتر المغمور

الخميس - 10 أغسطس 2023 - الساعة 09:04 م

فهمي غانم
بقلم: فهمي غانم
- ارشيف الكاتب


هو البشارة المصنوعة من تفاصيل الحارة العدنية ومن وحي نهاراتها وهدجة لياليها..
عزف سيمفونية الحياة في وتره المغمور فسُمع صداه بين البحر والجبل
ناطق في صمته..صامت في نطقه..يُرسل إشاراته من ثنايا الحرف فهو صاحبه وفعل الكلمة فهو رفيقها..
/فمن صلاة قلب/
نقتطف تلك الكلمات من
ديوان /الوتر المغمور/ للشاعر والأديب الكاتب الصحفي علي محمد علي لقمان المولود في مدينة عدن 1918م لنعيش اللحظة الرومانسية المليئة بالإستغراق والممهورة بذالك الإمتداد الناعم الذي يداعبُ شغافَ القلب..
هو قلبٌ عصفَ الشوقُ به*
فترامى في حنينٍ وأنين
ينشدُ الأزهارَ من أوصابه
نغمة فيها تباريحُ السنين
من دعاءٍ وصلاة
وصباباتٍ وآه
أترى الحب الحياه
أم هو السرّ الدفين
----------
هو عنوانٌ رومانسي بإمتياز
نلاحظُ الإمتلاء العاطفي  والشجن والحنين وتلك التماثلات البيانية البلاغية والرمزية المختبئة بين السطور حتى أصبحت هذه الأغنية كأنّها النشيدُ اليومي لجيلٍ إستهواه الحرفَ الموسيقي فتمدّدَ على بساطِ السطر الشعري والنغم الجميل متوافقاً مع أداء الفنّان الكبير الرائع محمد مرشد ناجي..
تبدو الكلماتُ هنا كاشفة صدرها عن شفافيةٍ ناعمة متحرّرة من الإحتباس اللفظي بحيث أصبح النصّ الشعري قابلاً للتذوّق..
وكيفَ لايحدثُ لعنوانٍ هو كنايةٌ لنزوع فكري نحوَ الفخامةِ اللفظية وقوّةِ الإثارة والأداء الراقي الجميل ينهلُ من مخزون المدرسة الرومانسية ليبني عليها  نشاطه الأدبي والشعري تحديداً..
شاعرٌ فذ لايراهن بأحصنة هزيلة أو متاعٍ خاسر فتأتي تناولاته وكتاباته ملائمة لواقع متحرك ثري أحاطَ بالاديب الكبير والمثقف الرائع لقمان فيبدو تأثره الواضح بشعراء المدرسة الرومانسية ومدرسة ابولّلو من حيثُ أناقةِ التعبير وإشعاعِ الحرف وسلاسةِ النّظْم الذي أخرجه من عصمةِ القصيدة التقليدية فنفخَ فيها حياةً جديدة وزرعَ مشاتله الخاصة التي أزهرتْ شعراً وجمالاً وعذوبةً وهو ماأشار إليه الدكتور عبد العزيز المقالح في كتابه /الأبعادُ الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن/فقال.. 
/إنّ الرومانسية في شعرنا اليمني كانتْ محاكاةً صرفة لمثيلاتها في الأدب العربي/..
قد يبدو هذا صحيحاً في المفهوم العام لكن هناك حتماً إختلافاً بينياً واضحاً في التجربة الإنسانية وفي تفاصيل البيئة الإبداعية فتنميط المفهوم وجعله مقياساً عاماً لتجارب إنسانية مختلفة هو بمثابة إخراج المُحتمل إلى مالايُحتمل..
إنّ التمازج والتفاعل البيني بين الشاعر لقمان والنّص هو أحد ملهمات تفعيل النّص المسرحي الذي هو رائده وتجديده كشكل جنينيي جديد أطلّ برأسه وبدأ يتخلقُ في رحمِ البيئة الإبداعية  ويتمدّد بعنفوانِ اللحظة التاريخية الحاضة الغير طاردة عكس وضعاً أخذ بالتمحور وإظهار عضلاته الثقافية وعافيته الأدبية ولياقته الفنية في منطقة يتفاعل الناس مع الأدب والشعر والمسرح والفنون كما يتفاعلوا مع الحياة..
هكذا حال عدن رفعتْ سقفها وعاشتْ حلمها على أوتار زمنِ النخبِ المبدعة فوارس الميدان وكان منهم إبن لقمان نبتةً من شجرة ثابتة امتدّت أغصانها في كلِّ الأرجاء ومنها هذا الغصن الطري بالشعر والأدب والمتعة.. نديُّ القول طربُ اللسان موسوعُ الثقافة سخيُّ القلم متعدّد المواهب جمعَ الكَلِمْ من أطرافه هو المبتدأ صاحب السطر الأول لنون قلمه في كتاب الإبداع لايفلسف الأمور وإنّما يتعمقها بإحساسِ مثقف  فكان صوته الذي قدّم به نفسه في دواوينه ومسرحياته وكتاباته النثرية وأعماله الصحفية..
كان صاحبَ مهارات إبداعية فهو ليس حالةً ثقافية رخوية عابرة بل إمتداد زمني ومكاني لوضعٍ تاريخي سياسي وثقافي ومدني تأسّس وجوده وتفاعلاته وتأملاته من خلال الطفرة الثقافية لمجتمع تأسّس على التنوّع والتعدّد والإختلاف والتقارب والتجانس وهذا سر خلطة النجاح الذي ميزّه لعقود مضت ولقمان هو فعلها المستمر الذي لم يُبنى على الماضي بل على متلازمات إدراكية لماهية المرحلة وحساسية العبور نحو المستقبل وإلتصاق حميمي مع الحاضر ومحيطه الخارجي
الأستاذ الشاعر المسرحي علي لقمان له عدد من المسرحيات الشعرية فقد كان يستهويه المسرح وكان رائدا فيه صمّمَ أعمالاً إبداعيةً جديدة أدخل مفهومه التنويري ورؤاه في سياقاتٍ مختلفة إذ كان يتطّلع إلى تمكين البنية السردية للنص المسرحي كشكل تعبيري جديد ليتسيّد المشهدَ الثقافي كلّه وهذا مانجح فيه ولنأخذ نموذجاً من مسرحية
/قيس وليلى/ لم ينظر إلى تلك القصة بمنظورها التاريخي المعروف ولكن عالجها وفقاً لتقنيات السرد المسرحي وأدواته الفنية فاستخدمها في تطويع النص..فالقصة التاريخية هنا رمزاً تأصيلياً لما أرادَ أن يضيفه وهو الإنتصار لأفكاره  وبالتالي إنتصاره على التقاليد والعادات البالية المعيقة التي عمل على تفكيهها وتعريتها كاشفاً للمجتمع أهمية الوعي بإجتثاتها متكئاً على ماأفرزته الحقب التاريخية وتراكماتها التي إنتصرت للعلاقات الإنسانية ولمفهوم الحب العذري..إنها بهذا تشخصياً    لصحوة الضمير الجمعي لمجتمع عدن وثقافته أراد أن يبرزه الأديب الألمعي لقمان فهو طاقة للفعل المستدام لتحريك مفاعيل العقل وتحصين الذات وتحفيزها نحو صنع الفارق..
إستخدم المثقف الليبرالي لقمان كل مهاراته الفنية في المناورة الأدبية والصحفية لكشف ماهو مسكوت عنه في مجتمع يساكنه الإحتلال فكان في قلب المعادلة كاتباً وصحفياً وشاعراً أسهم في نزع غطاء العيب وأساليب الإحتلال فكشف عوراته بحنكة الصحفي الماهر والأديب المبدع وتقلّد مهمامَ المواجهة لاتستهويه المناطق الرمادية او حالات إنعدام الوزن أو التخفي خلف قناع الوهم فكان من قادة المعارضة للإحتلال إذ كان أمين عام الجمعية العدنية وكان نائباً منتخَباً معارضاً في المجلس التشريعي وفي ذالك كان صنوءَ أبيه الحكيم الأستاذ الرائع محمد علي لقمان المحامي صاحب السبق الثقافي والفعل التنويري الذي تحدث حول القضية الجنوبية والعدنية على وجه الخصوص في الأمم المتحدة..
لقد أسهم الأستاذ علي لقمان الإبن في صناعة مايمكن أن نسميه الثقافة الشعبية والتي تغلغلت في النسيج المجتمعي وغذت منصةً لتكثيف الإحساس بحجم المعاناة والفقر وحتى العدمية للكثير من سكان عدن ولكنها جاءت بلهجة ساخرة ناقذة للأوضاع ومهيجة للمشاعر تشعرك أن هناك ملاءمة بين كتاباته والواقع المرير..
من ديوان /ياهو الوراد/1958م وهو الديوان الذي تأثر فيه لقمان بالشاعر الكبير ببيرم التونسي..
طلع طلع جني اصطرع*
ظهري يبس داوي انقطع
حبلي ابتزق حقوي افتصع
ريقي نشف محد سمع
----------
صورة كاريكتارية ساخرة لمعاناة الناس في جلب الماء وخزنه عبر الوراد ويعكس فترة تاريخية من حياة عدن وسكانها وقد أجاد الشاعر فن إستخدام المفردة العامية التي تعكس واقع منظور وهي أبلغ الأثر للوصول إلى أذهان الناس وتبدو في باطنها نظرة سياسية محشوّة بدرجة من الالم والمعاناة..
وفي قصيدة أخرى إقترب كثيرا من مقصده وانتقد وضع القبول بما يملي عليك المستعمر..
أنتو عيال الوطن* 
وإلاّ عيال الجن
إن كنتم عيال الوطن 
شوفوا الوطن يعجن
قولوا لهم/نو/ 
منشتيش يس يس من
واللي يحب الوطن
يعرف يقول لكن
----------
القصيدة إختزلت وبلهجة ساخرة وضع النواب في المجلس التشريعي لعدن وفيها تحريض للنواب على الإعتراض وعدم القبول بكل مايقرره الحاكم البريطاني وبذالك عبر الشاعر لقمان عن وضع كان أحد أسبابه الإحتلال الأنجليزي لبلده الذي اختزلَ الأوضاع بعملية تدوير للفقر والعوز والحاجة بين الطبقات الأشدِّ فقراً واستطاع رفعَ درجة الوعي والإحساس بالوضع القائم وبالتالي أخذَ موقفاً منه..
لقد نشر لقمان كلَّ أفكاره وفلسفته في صحيفة والده فتاة الجزيرة الذي كان مدير التحرير فيها ثمّ أنشأ صحيفته /القلم العدني/1954م المملوكة له وكانت صوتاً وطنياً بإمتياز لما يدور من حراك سياسي واجتماعي ولساناً جميلاً للأدب والشعر و خاصة أن الصحيفة إتسمت بمهنية وحرفية عالية عكست ذالك التراكم التاريخي ومعطياته والتقدم النسبي للعلوم وكذا تنامي نهضوي عام في مدينة عدن كما أنَّ خبرته الشخصية وقدرته على إستيعاب كلِّ ماتنتجه المطابع أثرت إيجابياً على أداءه وعمله..
وعموماً إنَّ عدن ماضيها وحاضرها لم تكنْ كالتي نقضتْ غزلها من بعد قوّة فمازال الحنينُ يهفو إليها كما تهفو النوارس لشطاءآنها وفي الليلة الظلماء يُفتقدُ القمر..

********
/الوتر المغمور/..
هو عنوان لأحد دواوين الشاعر..استعرته لمقاربة هذا العنوان التي قرأ الشاعر فيه المستقبل فأصبح مغموراً أيضاً