غازي المفلحي
قامت الوحدة بين شطري اليمن في ظل نظامين اقتصاديين متعارضين : - احدهما جنوبي تبنى النهج الإشتراكي حيث يقود النشاط الإقتصادي قطاع عام يمتلك كل ادوات ووسائل الإنتاج مع حظر الملكية الفردية والنشاط الفردي وجميع افراد المجتمع في سن العمل هم عمال و موظفين يعتمد دخلهم على ما توفره الوظيفة من راتب شهري .- ونظام رأسمالي في الشمال يسمح بالنشاط الإقتصادي الفردي وبالملكية الفردية ولا قيود او حدود لهذه الملكية .هذا تماما كان حال افراد المجتمع شمالا وجنوبا عشية قيام الوحدة ، ومع انتقال الجنوبيين شمالا والشماليين جنوبا كانت الغلبة دائما لمن يملك رأس المال وفي كلا الحالين فان رأس المال كان دائما شمالي .هكذا تحول الجنوبيون خصوصا بعد حرب 94 من أُجراء لدى دولتهم الى أُجراء في دولة الوحدة او لدى القطاع الخاص الشمالي ولم يكن في مقدروهم المنافسة في اعمال أسست نفسها منذ سنوات طويلة لسبب بسيط انهم كانوا معدمين او شبه معدمين لأن دولتهم التي وقَّعت اتفاق الوحدة لم تسمح بالنشاط الفردي قبل الوحدة وتركت مواطنيها معوزين وفقراء ثم رمتهم بعد الوحدة الى سوق العمل مجردين من كل وسائل المنافسة ، في حين تمكن الكثير من الشماليين من تأسيس اعمال خاصة لهم وكونوا ثروات وملكيات تجعل لهم اليد العليا في اي منافسة مع الجنوبيين سواء في الشمال او في الجنوب .هذا الوصف يلخص وضع الإقتصاد في الشطرين عشية الوحدة وما بعدها ، وهو يصدق على الأنشطة الإقتصادية عموما بما فيها وكالات السفر والسياحة التي امتلكها الأفراد الشماليين من وقت مبكر في حين لم يكن في مقدور الجنوبيين امتلاكها بعد الوحدة لإفتقارهم الى رأس المال سواء لفتح مكاتب او دفع ضمانات مثل ضمان آياتا وخلافه من الضمانات الحكومية التي تتجاوز بكثير قدراتهم المالية المعتمدة على رواتبهم .لهذا عندما قررت وزارة الأوقاف اشراك القطاع الخاص ممثلا في وكالات السفر والسياحة بتفويج الحجاج ثم تكليفهم بالقيام بعملية التفويج بشكل كامل استحوذت وكالات شمالية على الحصص الكبرى من اعداد الحجاج باعتبار انها الوحيدة التي كانت متواجدة في السوق ، وكان هذا طبيعي في ظل غياب وكالات تنتمي الى الجنوب ، ولأن حصة اليمن من الحجاج المعتمدة من المملكة تكاد تكون ثابته لأكثر من خمسة وعشرين سنة بناء على آخر تعداد سكاني فان دخول وكالات سفر وسياحة جنوبية الى السوق في السنوات الأخيرة لم يكن امامها اى فرصة للمشاركة بالتفويج اذ ان الحصة الكلية المعتمدة لليمن كلها موزعة ومن حالفها الحظ فقد حصلت على عدد ضئيل لا يكاد يغطي مصاريفها .*درس من الوحدة الألمانية*بعد قيام الوحدة اليمنية بشهور قامت الوحدة الألمانية بتوحيد شطري المانيا الشطر الشرقي الذي كان ينتهج الإشتراكية وملكية القطاع العام للانشطة الإقتصادية ، والمانيا الغربية التي تنتهج الإقتصاد الحر حيث حرية الفرد في العمل والتملك متاحة امام الجميع .تشابه كبير يصل الى حد التطابق بين ظروف قيام الوحدتين ، لكن الفرق شاسع بين النتائج والمآلات ، ففي حين لا تكاد تتوقف اصوات المطالبة بالإنفصال عند الجنوبيين اليمنيين لا تسمع في المانيا اي دعوة للإنفصال واستعادة الدولة الشطرية ، والسبب يعود الى العدالة النسبية التي سادت وحدة المانيا وافتقدتها وحدة اليمن .فالمانيا الغربية ( وهي هنا في وضع اليمن الشمالي سابقا ) استباقا ليوم سوف يعاد فيه توحيد المانيا قررت من وقت مبكر اقتطاع نسبة محدد من الناتج القومي السنوي ووضعه في صندوق خاص اسمته صندوق التضامن خصصت موارده للإنفاق داخل المانيا الشرقية بعد اعادة توحيدهما بهدف تقليص فارق المستوى المعيشي بين الألمانيتين .وهذا بالضبط هو ما تم لاحقا عندما اعيد توحيد شطري المانيا ، اذ انفقت المانيا الغربية بين 1,5 – 2 تريليون يورو في المانيا الشرقية لتقليص الفجوة القائمة بين الألمانيتين ولتسهيل دمجهما في مجتمع واحد متجانس .وهذا لم يكن ممكنا حصوله في اليمن الشمالي قبل الوحدة لسببين :اولا : ان العقلية التي حكمتها لم تكن عقلية المانية بل عقلية الفيد وعودة الفرع الى الأصل .ثانيا : ان موارد اليمن لا تقارن اطلاقا بموارد واقتصاد المانيا .ومع ذلك فالظلم هو الظلم سواء في المانيا او اليمن او جزر واق الواق والعدل اذا غاب عنا او تأخر زمنا فعلينا ان نحاول تعديل كفة الميزان كلما كان هذا متاحا ليس فقط لأن العدل قيمة اخلاقية كبيرة بل ايضا حتى لا يتسبب الشعور بالإجحاف والغبن بتفكك وتصدع المجتمع ، وهذا هو بتقديري ما استهدفته وزارة الأوقاف في قرارها الأخير من اعادة توزيع حصص بعض الوكالات الشمالية ذات الحصص الكبيرة لصالح الوكالات الجنوبية صغيرة العدد او التي بدون عدد على الإطلاق . *حوار مع حسين الصباحي*قابلته صدفة في المطار ، وتحدثنا في موضوع المظلومية التي يطرحها الجنوبيون اليوم ، قلت له الجنوبيون مظلومون لأنهم دخلوا الوحدة وليس معهم اي مدخرات وتم دفعهم الى السوق وليس لديهم امكانيات المنافسة بعد ان جردهم نظامهم السابق من كل الإمكانيات ، لكن تسليمنا بمظلومية الجنوبيين لا يعني اننا نحمل وكالات الشمال مسؤولية هذا الظلم بل الظروف ونظام ما بعد 94 الذي افتقد للرشد بعد ان تعامل معهم بعقلية ( كله في البرمة ).ورغم ان الأنظمة التي تسببت بهذا كله قد ذهبت ادراج الرياح الا ان الظلم قائم وعلينا ان نساهم بقناعة ومحبة اذا لم يكن برفعه كاملا فعلى الأقل التخفيف من وطأته وذلك بتنازل الوكالات التي لديها حصص كبيرة برضا وطيب خاطر عن بعض اعدادها لشراء النفوس والقلوب ولنعتبرها تضحية وطنية ، فالوطن هو وطننا نحن الشعوب وليس الأنظمة .وكانت اجابة الأستاذ حسين تثلج الصدر عندما قال ... ونحن جاهزين