آخر تحديث :الخميس-19 سبتمبر 2024-01:52ص


ظاهرة المثقف... بيّاع الكلام

الثلاثاء - 14 يونيو 2022 - الساعة 11:07 ص

د. أنيس مجمل
بقلم: د. أنيس مجمل
- ارشيف الكاتب


✍🏻 د. أنيس مجمل..

🔶 توطئة:
▪️نُصادف في حياتنا اليومية أثناء التعاملات جملة من بائعي الكلام، فقد تذهب إلى متجر وتجد مكتوبا على الباب مبيعاتنا أصلية، وعند الدخول تجدها مقلدة، وقد تستمع لخطاب من مسؤول حكومي عن منجزاته الخارقة في النهضة الوطنية ولكن في الواقع البلد منهار، والشعب منهك، والفساد مستشري، وقد ترى إعلانا مدفوعا يروج لشخص بكونه متقناً لعمل ما، وعند استعانتك به في مجال عمله المعلن تجده فاشلا.. كل ما سبق باعة كلام في عالم الواقع.

▪️ وفي عالم الفكر والثقافة هناك أيضا باعة كلام.. وهم كثير للأسف الشديد، وهذا هو المؤلم أن المثقف الذي لابد أن ينهض بالمجتمع من خلال أفكاره الإبداعية وتوجيهاته الرشيدة تجده مجرد بيّاع كلام.. يبحث عن الشهرة، أو المال، أو تحصيل المكانة في عالم الفكر والثقافة، أو السعي لمنصب مرموق... كل ذلك لأجل ذاته وإن تظاهر بألمه الزائف للواقع المرير.

▪️المثقف.. بيّٓاع الكلام مريض نفسي، عنده داء العظمة، يتعامل مع الناس بتعالي، غير مبالي بأحد، مبتلى بتهميش غيره، كما أنه يُخفي عيوب نفسه بكلمات يخادع بها الآخرين، ولكن سرعان ما تنكشف زيف كلماته... يعتقد المثقف بيّاع الكلام أنه عقول من حوله سمكية يمكن أن يخدها بريق كلماته، ويمكن أن تغفل عن رصده ومراقبته في أرض الواقع، أو أنها ستنسى مواقفه الهزيلة في ميدان العمل.

🔶 المثقف في قاموس الفكر :
▪️تعددت التعريفات لمصطلح المثقف فقيل هو.(الشخص الذي تمتد أفكاره إلى نطاق أبعد من مهنته, ويهتم بالقضايا والمشكلات الحقيقية)، وقيل هو: (المتعلم الذي يسعى إلى صياغة ضمير مجتمعه ليتجه إتجاها رشيدا، وله تأثير على القرارات الكبرى لهذا المجتمع)، وقيل هو: (مَن لديه القدرة على التفاعل والتعامل مع الأفكار والثقافات المختلفة) وقيل: (المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة) ... فمن خلال هذه التعريفات يظهر لنا أن المثقف شخص لديه علم ومعرفة، وله دور في بناء المجتمع، وإيجاد الحلول لمشكلاته، ويتمتع بصدر رحب في تقبل الآخرين رغم الاختلاف معهم،.. يعيش المثقف هموم مجتمعه ويتفاعل معها بصورة إيجابية تنقله من دائرة التنظير إلى دائرة العمل.. وكما قيل: (المثقف موقف وليس مهنة)
▪️ قد يكون المثقف من حملة الدين.. أو مصلحا اجتماعيا.. أو سياسيا معارضا... أو مفكرا منظراً.. يربط الجميع رابط كونهم مثقفي المجتمع، وكما قال بعضهم (الثقافة ليست ذات نمط فلسفي أو معرفة نظرية بل تعبر عن حياة اجتماعية وواقع فكري وسلوكي).

🔶 من هو المثقف بياع الكلام:
 يكون المثقف مجرد بيّاع كلام في عالم الواقع، بعيدا عن عالم الفلسفة والتنظير:
▪️حينما يخالف قوله فعله، تجده يُرسل التوجيهات عبر منصاته ولا يطبق منها شيئاً، يحث غيره على بذل المعروف وهو يمنع الماعون.. يتحدث عن آلام المجتمع ومشكلاته بكلمات المحسن المكلوم.. وهو البخيل الأناني المعرض عن آحاد الناس، وكأنه كما قيل لو كان بيده منع القطر من السماء لمنعه. 
▪️حينما يتعالى عن النصيحة، ويرفض النقد البناء... إذا أخطأ في معلومة، أو زل قلمه في الحديث عن قضيه فنقده الآخرون تجده يرد بعنف على غيره، ويُدافع عن خطأه بكل وسيلة، ولا يمكن أن يعتذر أبدا، وكأنه معصوما عن الزلل. 
▪️حينما يدمر أعمال الآخربن، فالمثقف بيّاع الكلام حقود حسود، لا يمكن أن يفسح المجال لغيره ليرتقي في عالم الفكر والثقافة، وليته يقف موقف الحياد، بل تجده ينتقد أعمال الآخرين بإسفاف وتحقير، ويسعى بكل قوة لتدمير غيره، والتزهيد في إنتاجهم المعرفي النافع.
▪️حينما يخالف ما ينبغي أن يكون... إذا تحدث الجادون عن القضايا الكبرى، يتحدث بيّاع الكلام عن الأمور الهامشية التي لا تفيد، وتجده دائما يبحث عن مواطن النزاع ليشق الصف، ويفتش عن شواذ الأفكار الميته ليُعيد إحيائها، على قاعدة خالف تُعرف. 
▪️حينما يكون ميكافيلي النزعة، ليس له هم إلا مصالحه الشخصية، تجده مثلا يتحدث عن القضايا العامة بأسلوب المشفق، ويتفلسف في هموم الأمة بطريقة المثقف المتألم، بينما تصرفاته على أرض الواقع تنم عن شخصية أنانية، لا تعنيها آلام الآخرين. 
▪️حينما لا يسأل عن أحد لا يستفيد منه مصلحة شخصية.. وحينما يكون منعزلا عن الناس الذي يصعد على ظهورهم بفلسفته المخادعة، بحجة الاهتمام بالقضايا الكبرى، والحفاظ على وقته من الضياع، فهو لا يعنيه إلا نفسه، وليس له من الأصحاب إلا الذين تربطه بهم المصالح المتبادلة، أو الذين يسعى بفلسفته المزيفة للوصول إليهم من أهل الجاه والسلطان والمال. 
▪️ حينما يتفلسف في غير مجاله، ويتكلم في كل فن لا يحسنه، وكانه المثقف الخارق الذي حوى العلوم، وفي حقيقة الأمر ما هو إلا خنفشاري جاهل متطفل على العلم، يخبط خبط عشواء بلا ضوابط ولا قيود، وجاهل جهلا مركبا وهو يظن نفسه العالم الحكيم.
▪️حينما يكون مستبدا، عاملا على تكميم أفواه المخالفين له، ساعيا لإغلاق كل نافذه نقد يوجه إليه، وبكل قوة يُحاول فرض رأيه، وكأنه وحده المفكر العميق الذي يحمل الحقيقة المطلقة... يصدق في حاله قول الشاعر:-
قال لزوجته: اسكتي / وقال لإبنه: "انكتم"
صوتُكمَا يَجعلُني مُشوّش (التّفكير) ..!
لا تَنبسَا بـ (كَلمَه) أريدُ أن أكتُب عنْ (حرّية التّعبيرْ)
▪️حينما يتناقض المثقف بين ما يدعيه وبين ما يدعو له، فمثلا قد يدعي المثقف الانتماء للإسلام، وحبه للدين، ثم هو ينادي بأسلوب ماكر إلى مراجعة الموروث الديني ليتناسب مع الهوى الغربي... ثم هو يشكك في ثوابت الإسلام، ويدعو لعرض نصوص الوحي على مثل عقله المريض، حتى بتسنى له إسقاط قداسة الوحي من النفوس، وإضفاء القداسة على العقل السقيم الذي لا يمبز بين التمرة والجمرة... ليفتح الباب للشهوات الأخلاقية التي يسميها تطورا وتحررا، وللانحرافات الفكرية التي يراها رقيا وإبداعا.
▪️والخلاصة:-  يعيش المثقف بيّاع الكلام حالة نفسية من ازدواجية السلوك قد تكون ناتجة عن عدم إيمانية الحقيقي بما يتكلم به، وإنما متخذ بيع الكلام وسيلة للوصول إلى تحقيق الأطماع الشخصية، وإما أنه يعلم أن ما ينادي به هو ما ينبغي أن يكون عليه، ولكنه ضعيف الهمة، محب لذاته، غلبته الأنانية الراسخة في نفسه، فمنعته عن التطبيق العلمي الممكن لما يُنادي به، وقديما قيل:
نبني من الأقوال قصراً شامخاً ... والفعل دون الشامخات ركامُ !!

🔶 المثقف الصادق:
▪️إن ما تعانيه أمتنا في واقعها المعاصر، من استبداد سلطاني، وتخلف حضاري، وتسلط أجنبى، وهجوم فكري يستهدف هويتها الإسلامية.. كل ذلك بحاجة إلى مثقف جاد وصادق يطبق ما يقول، ويقول الحقيقة كما هي، ويتعامل مع القضايا بموضوعية ونزاهة. 
 ▪️ذلكم المثقف المتسلح بالعلم والمعرفة، قليل الثرثرة كثير العمل، لا يمل في البحث عن الحلول لمشكلات أمته، ولا يكل في سبيل نصرة المظلوم، ولا يانف في مد يد العون لكل مكلوم، ولا يتعصب لفكرة إجتهادية، أو حزب سياسي، أو انتماء جهوي..
▪️ ذلكم المثقف الذي يفسح المجال لغيره، ويضع يده في يد الآخرين للوصول للمستقبل المنشود.. ذلكم المثقف الذي يبحث عن معالي الأمور، ويتحدث عن القضايا الكبرى، ويتكلم بعلم أصيل وفقه دقيق في أي قضية يطرحها... 
▪️ذلكم المثقف المرابط على ثغور الفكر يذود عن الدين، ويرتقي بالأخلاق، ويبني الوطن، ويقف سدا منيعا في وجه طوفان الأفكار المستوردة التي تفسد الدين والدنيا ((رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا))... 
القول كالبرق والأعمال كالمطر
فاجعل كلامك برقا صادق الخبر