مثل انهيار سد مارب قديماً، في المصادر التاريخية وعند الإخباريين العرب، حدثاً مزلزلاً ومحطة تاريخية فاصلة ليس في تاريخ اليمن وحسب بل في التاريخ العربي كله، فزيد في الحدث ونقص، ونسجت الروايات المختلفة للحدث حتى تداخل غثها في سمينها، وصار الغث منها والأساطير هي الطاغي الأكبر على الأصل دون تمحيص وروية، ولم يدون الحدث في المصادر المادية كالنقوش المشندي والآثارية التي تعتبر أهم الدلائل المادية والشواهد التاريخية على ذلك.
وفي هذه الدراسة إعادة تمحيص لكتابة تاريخ ذلك الحدث، وتفنيد الكثير من الروايات التاريخية والأساطير الملفقة لنصل إلى الحقيقة.
تسمية العرم:
بإلقاء نظرة جوية على جبلي السد عن يمين وشمال سنجد أنه أشبه بحاجب وسد جبلي طبيعي منتهى سلسلة الجبال الغربية والشمالية الغربية وبداية السهل والصحراء، جعلت وسطها ثغرة بشكل ميزاب إذا سدت كونت بحيرة طبيعية.
هذا الحاجب الحاجز من خلال صفته فهو يشبه "العُرْم" وربما جاءت التسمية من هذه الصفة المكانية والجغرافية.
ففي اللغة اليمنية القديمة، والتي ما زالت محكية الى اليوم، فإن كثيراً من مناطق اليمن تسمي حاجب العين "عُرْماً"..
وكثيرة هي المناطق في اليمن التي تسمى "العُرْم" من مناطق جبلية ومنها منطقة العرم بين شبوة وأبين مثلاً. وغالباً تطلق التسميات عند اليمنيين على الأماكن من خلال صفاتها وواقع حالها.
"ويقال للسد (عرمن) في العربيات الجنوبية، أي: العرم، فلفظة (العرم) تعني السد عند اليمانيين القدماء، ولم تكن علماً على سد معين، أعني سد مارب. وقد وردت في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فأرسلنا عليهم سيل العرم﴾"( ).
ذهبت عدة تفسيرات لمسمى "العرم" في القرآن، فمن قائل أنه لفظ يماني يطلق على السيل الكبير، ومن قائل بأنه الحاجب وهو السد، ومن قائل هو اسم السد، ومن قائل إنه اسم المنطقة والجبل القائم عليها السد.
ونجد في لسان العرب لابن منظور أن للفظ عدة معانٍ وأوصاف كلها تنطبق على حال سد مارب، فهو يعني السد، ويعني الحاجز، ويعني الوادي، واسم من أسماء الجرذ، وهو المسناة (ثغرة جبل، ثغرة الشيء)، والشديد، والكثير، والسيل، والمُزارِع، و..إلخ. وأنشد بن بري للجعدي:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ يبنون من دون سيله العرما
ويبدو تعاضد كل هذه الألفاظ التعريفية لمكان واحد هو الذي غلّب رواية أن سيل العرم تم إسقاطه على السد. فالنقوش السبئية تسمي السيل الجارف "ذ ع ب ن"، كما في نقش (JA735) الذي يؤرخ بسنة تبع كرب بن ودد إل بن كبر، ويتحدث عن أمطار غزيرة وسيول جارفة في مارب( )، ويعود للقرن الثالث الميلادي في عهد الملك نشأ كرب يأمن يهرجب.
من خلال التاريخ القديم لإنشاء السد، كما دونته النقوش، لم تذكر نقوش ما قبل الميلاد اسم "العرم" على السد، وإنما ظهرت التسمية بنقوش ما بعد الميلاد، مثل نقش (GAM 671) أو نقش أبرهة الحبشي فقط.
يقول نقش GAM: "بكن/ ثبرت/ عرمن" أي: عندما تصدع العرم (السد). والنقش -في مجمله- يتحدث عن عملية إصلاح سد مارب في عهد الملكين ثأران يهنعم وابنه ملكي كرب يأمن في منتصف القرن الرابع الميلادي..والعرم والعريم هو الحاجز في لهجة أهل اليمن اليوم( ).
لم نجد هذه التسمية (العرم) في النقوش السبئية الأولى، لكننا وجدناها في النقوش السبأية المتأخرة والتي تسمى بالفترة الحميرية، مما يعني أن لفظ "العرم" حميري مستحدث، وسمي السد باسمه لاحقاً في الفترة الحميرية، وهذه إشارة هامة على أن سيل العرم حدث في الفترة الحميرية المتأخرة.
بدأت تسمية السد بالعرم مع بداية القرن الرابع الميلادي في عهد الملكين ثاران يهنعم وابنه ملك كرب يهأمن، ورد ذلك في نقش الملكين السابقين والمرموز له ب(JA 671 =MaMB 294 )، ثم بعد ذلك تكررت التسمية في نقش شرحبئيل يعفر وما بعد ذلك من النقوش إلى العهد الأخير لأبرهة الحبشي.
كما إن تسمية "العرم" ليست عامة على كل سد من سدود اليمن المختلفة وإنما اسم خاص بسد مارب، والذي كان قبل الميلاد يسمى سد "ر ح ب م" (رحاب)، وهذه دلالة أخرى على أن السيل فعلاً كان مسلطاً على سد مارب دون غيره من السدود، وهو المهدد دائماً بالانهيار جراء السيول المتدفقة.
وقد جاء في نقش أبرهة الحبشي، الذي جدد فيه بناء السد سنة 658ح= 543م اسمه (عرن) وليس عرم، ومعلوم عملية إبدال الحروف في لهجات اليمن بين الميم والنون، فيسمى أحيانًا "عرم" وأخرى "عرن"، أو أنه قد سقط حرف الميم عن الناقل أو انمحى أثره ويعني (ع ر م ن) كما هو الاسم في نقش GAM 761.
مع أن "العرن" يقصد به أحياناً (الحصن)، كما جاء في نقش RES 2633 وCIH 621 الذي يتحدث عن ترميم "ع ر ن/ م و ي ت" (حصن ماوية) في شبوة قديما والذي يسمى اليوم بئر علي( ).
وأياً تكن التفسيرات لهذا اللفظ، ولو افترضنا أيضاً صحة إسقاطها على السد والسيل معاً، فإننا لا نستطيع تجاوز وتغافل الأدلة المادية أن السد تهدم بالسيل لحوالي ثماني مرات أو تزيد، وأن الخراب كان محدوداً للغاية، وبقيت البلاد عامرة بأهلها ولم يهاجروا بشكل كلي.
وكما هو الحال والوضع والتساؤل الذي يتكرر في كل مرة: لم تذكر تلك النقوش هجرات كبيرة، وعلى أي عهد منها يمكن أن نسقط تلك الهجرات والسيل المخصص في القرآن؟!
فهل في كل سيل من تلك السيول التي هدمت السد يمكننا أن نطلق عليه نفس التسمية (العرم)؟!
لتحليل اللفظ الوارد في القرآن الكريم فإن اللفظ "سيل" كان نكرة، لكن بإضافته إلى معرفة وهو (العرم) يصير معرفة لا نكرة، و"العرم" هنا اسم معرف أيضاً للسد لا صفة للسيل، بل إن السيل هو المضاف لهذا "العلم"، وبالتالي فإن "العرم" هو اسم للمكان الذي انطلق منه السيل أو الذي جرفه السيل مثلاً.
وإذا كان الاسم معرفاً فإنه يكون مقصوراً وأكثر تمييزاً وتحديداً للأشياء وعلى استعمال اسم بعينه، بعكس التنكير الذي يكون مبهماً ومفتوحاً على كثير من التأويلات والاستعمالات.