آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-02:20م

ملفات وتحقيقات


فارس الميدان.. الرحيل المُحزن!!

الأحد - 19 مارس 2023 - 10:48 م بتوقيت عدن

فارس الميدان.. الرحيل المُحزن!!

بقلم : محيي الدين سعيد

عاد يحيى علاو من دراسته الجامعية، بعد تفوُّقه في الثانوية القسم الأدبي، وحصوله على المركز الأول على مستوى الجمهورية، تخصص فيها في مجال الإعلام (إذاعة وتلفزيون) في إحدى الجامعات السعودية، وكانت المرة الأولى التي أراه في ثانوية عمر بن عبد العزيز في مدينة الحديدة في العام الدراسي 1985/1986م، وهو يدخل علينا شعبة 3/2 أدبي؛ لتدريسنا مادة اللغة العربية كخدمة الزامية، بدلاً عن مدرس مصري.

والحقيقة كانت نظرتنا كطلاب للمدرس اليمني قاصرة جدا وعدمية، بسبب من صادفناهم من المدرسين اليمنيين -على قلّتهم- في مراحل التعليم المختلفة، حيث أعتقدنا أن شخصياتهم ضعيفة، ولا يجيدون فنون الإلقاء داخل الفصل، عكس المدرّسين المصريين، بحُكم خبراتهم الطويلة في مجال التعليم، وكانت من أجمل الحصص التي أخذناها على الاطلاق، حيث تحولت الحصة إلى ثقافة عامة، ومعلومات من الشرق والغرب بطريقة يحيى علاو التلفزيونية المبهرة، وإلقائه المميّز.

لكن المدرِّس المصري، بحُكم علاقتنا اليومية معه، قام باستدعاء مجموعة من الطلاب بالفصل، وكنت منهم، ومنير المقالح -شقيق الدكتور عبد العزيز المقالح- وكان ناشطاً في أسابيع الميثاق الوطني، وجمال أنعم، ومحمد القاهري،  الذي احتل تلك السنة المرتبة الأولى على مستوى الجمهورية، وحصل على منحة إلى الجزائر، درس فيها سياسة واقتصاد، واستطاع إقناعنا بحُكم كوننا طلاب ثانوية عامة، أننا بحاجة إلى مدرس "يُشَرِّبْنَا" المنهج المدرسي فقط، لكي ننجح بالاختبار بتقدير ممتاز، وليس لمدرس ثقافة عامة، وأن التركيز على المنهج من أهم أولويات طالب الثانوية العامة، وأن يحيي علاو "لسة خريج جديد ومش فاهم حاجة داه حيضيعكم يا ولاد"، والحقيقة أنه أقنعنا تماماً، ولم نخرج إلا وقد وقَّعنا على ورقة نطالب فيها إدارة المدرسة بعودة المدرس المصري بدلاً عن يحيى علاو، ومررناها على زملائنا بالفصلين للتوقيع، وتمت تلبية طلبنا بكل أسف، وتم نقل الأستاذ يحيى لتدريس الصف الثاني الثانوي الأدبي، وتقبل الأمر بكل روح رياضية متفهماً الموضوع، وذهبنا إليه نقدم له اعتذارنا الشديد، وكان كلام المدرس المصري معقولاً، ولكن كان هدفه أن يرتاح من طلاب مراحل النقل، والتصحيح والاختبارات الشهرية، حسب ما فهمنا.

الغريب والعجيب أننا بعد شهور واجهنا الموقف نفسه الذي واجهه يحيى علاو حين ألزمونا بخدمة التدريس بدلاً من التجنيد بعد الثانوية، حيث واجهنا صعوبات كبيرة في تقبل تلاميذ الابتدائية لنا كمعلمين، رغم أننا تلقينا دورات سريعة.

وأود هنا أن أشير إلى أن من أهم أسباب تدهور التعليم في اليمن كان يمننة التعليم فجأة بشكل عشوائي وبدون دراسة وتأهيل لمخرجات معاهد المعلمين والمعلمات، وهي الكوادر التي كانت شبه أميّة لولا دفعات خريجي كليات التربية التي بدأت دخول الميدان بعد عام 1990م، ولعلنا هنا نشير إلى تصريح يحيى الشعيبي، وكان وزيراً للتربية والتعليم في فترة ما بعد حرب صيف 94م، أن 80 ألف معلم شبه أمي من مخرجات المعاهد، ولم تنجح أي خطة لتأهيلهم عن طريق المعاهد العليا، التي أنشئت عام 96م؛ بسبب مخاوف المؤتمر آنذاك من تحولها إلى معاهد  تفريخ واستقطاب بديلة عن المعاهد العلمية التي أُلغِيَتْ..

نعود إلى الأستاذ يحيى علاو، الذي ربطتني به علاقة مثاقفة بحكم علاقته القوية بأحد أبناء قريتي من طلاب ثاني أدبي، وعمله في إذاعة الحديدة، التي كانت قريبة من سكني، قبل أن ينتقل إلى صنعاء، وتتفرق بنا السُّبُلْ، للعمل في التلفزيون، وكان برنامج "عالم عجيب" من أبرز أعماله هناك، قبل "فرسان الميدان"، وكان التلفزيون الرسمي وقيوده تكبِّل يحيى علاو المثقف من الطراز الأول، وتحاصره وسط كثير من المحاذير التي يدركها الكثيرون ممن عملوا في الإعلام الرسمي، ولذلك كان بحاجة إلى التحرر، وتوظيف مهاراته وموسوعته المعرفية، وساعده على ذلك فريق عمل طوع بنانه.

شخصية يحيى علاو المحببة بقربه من الناس وتعامله البسيط، وثقافته الدينية، وضحكته المعروفة التي كانت تصدر من قلبه في برنامجه "فرسان الميدان"، إضافة إلى طبيعة البرنامج الجماهيري.

ونحب هنا أن نشير إلى أن كل محاولات تقليد برنامج وفقرات يحيى علاو باءت بالفشل الذريع، ولم يبق للناس من يحيى علاو سوى أخلاقياته الإعلامية، التي يجب أن تُدَرَّسْ، وذلك البرنامج النبيل الجميل، فقد مزج بطبيعته بين الثقافي والسياحي والجماهيري والديني، وكان للأرياف اليمنية النصيب الوافر، وكان لحرية التنقل بين محافظات وأنحاء اليمن بسلاسة دور كبير في توحيد عقول وقلوب اليمنيين، خاصة في شهر رمضان، ورسم ابتسامة عريضة جداً على وجوه اليمنيين نساء ورجالاً وشيوخاً وصبياناً، ومن كل الفئات، والتوجّهات، والأحزاب، والمثقفين على اختلاف مشاربهم، كان الجميع لا يُفَوِّتون برنامج يحيى علاو، وقد ارتبط البرنامج به أكثر من ارتباطه بالقناة التي كان يُطِّل منها، ولقد أعطى يحيى علاو -خلال العشر سنوات- من "فرسان الميدان" كل ما يمكن أن يقدمه مثقف ومقدم برامج عبقري للناس، تاركاً نفسه بكل أسف لمرض عضال يفتك به، حتى إنه لم يشعرهم يوماً بذلك، ولعل مَشاهد جنازته، التي فاقت ما قبلها وما بعدها، تؤكد عبقرية حب الناس التي زرعها يحيى علاو في وجدانات اليمنيين، وهو أول إنسان يجتمع اليمنيون على حبه، والافتتان بنبله وإنسانيته وبساطته، الذي جعل من اليمنيين أسرة واحدة تلتف حوله لمدة ساعة كل يوم رمضاني طوال الشهر الكريم، وهو يودعهم ثم يلتقي بهم بكل حب، حتى فارقهم بكل الحب وكل الدموع، مساء 14 يونيو 2010م، بعد أن فتك السرطان بإحدى كليتيه، وما من إنسان يسمع اسمه إلا ويترحم عليه بحرارة وإيمان وحب واحترام، ومن أحبه الله أحبه الناس، وكان آخر لقاء جمعني به في تعز في أحد مهرجانات مؤسسة السعيد..

رحمك الله أستاذي العزيز.. يرحل الجميلون من حياتنا بسرعة الضوء.