آخر تحديث :الجمعة-17 مايو 2024-09:05م

أخبار عدن


رعب الساعة التاسعة" للدكتور/ محمد مسعد: رواية جديدة تتناول سيرة الشهيد علي صالح الشاعري

الأحد - 09 أبريل 2023 - 07:42 م بتوقيت عدن

رعب الساعة التاسعة" للدكتور/ محمد مسعد: رواية جديدة تتناول سيرة الشهيد علي صالح الشاعري

عدن((عدن الغد)) خاص

*"*

*فؤاد مسعد*
ما بين ولادة البطل الشيخ المناضل/ علي صالح الشاعري تحت إحدى أشجار السدر في إحدى قرى الضالع (جنوب اليمن)، واستشهاده تحت سدرة أخرى، وفي قرية أخرى، في الضالع نفسها، تجلت قصة حياة حافلة بالكفاح المستمر والنضال المتواصل والانتفاضات التي لم تتوقف، حتى ولدت من رحمها ثورة الرابع عشر من أكتوبر سنة 1963 ضد الاستعمار الأجنبي الذي جثم على جنوب اليمن قرابة 130 سنة.
قصة الشيخ الشاعري ظلت حبيسة في صدور من عرفوه وأحبوه ولم يُسمح لها أن تخرج إلى النور، ذلك أنها – خاصة في حلقاتها الأخيرة، تكشف جانباً مظلماً من تجربة قاسية عاشها الشيخ الشهيد وأمثاله بعدما سيطر على حكم البلد تيار اليسار الذي أصر على إقصاء كل من لا يؤمن بمبادئه ولا يسير على هواه، حتى وإن كان ممن أذكوا نار الرفض والاحتجاج ضد الاحتلال البريطاني وعملائه وأدواته ومشاريعه، كما هو حال المناضل / علي صالح الشاعري، أحد أبرز شيوخ قبيلة الشاعري، أو ما يطلق عليهم في الضالع "الشّعّار"، وهي جمع كلمة "شاعري". 
كانت قصة الشاعري تنتظر من يخرجها إلى النور لتقرأها الأجيال التي لم تسمع سوى الصوت الواحد ولم تر غير اللون الواحد، فجاءت رواية "رعب الساعة التاسعة"، لكاتبها الدكتور/ محمد مسعد سعيد، أستاذ النقد الحديث بجامعة عدن، الذي تتبع فصول الحكاية من مصادرها، بمقابلة من عرفوا البطل وعاشوا معه، وجَمَع أطراف القصة ثم ربَطَها بأحداث التاريخ الذي كان الشاعري – كما كان والده وجده- أحد صانعيه، سيما في الفترة التي سبقت انطلاق ثورة الرابع عشر من أكتوبر في ستينيات القرن العشرين.
وقد صدرت الرواية بطبعتها الأولى هذا الشهر (أبريل/نيسان 2023) في عمّان (الأردن)، عن دار كفاءة المعرفة، موزعة على 214 صفحة، يبدأ أول فصل في الرواية في الصفحة رقم 5، بعنوان "تحت السدرة"، ويتناول ميلاد بطل الرواية، وفي الصفحة رقم 205 يبدأ الفصل الأخير من الرواية، بالعنوان نفسه "تحت السدرة"، لكن السدرة ليست نفسها، فالسدرة الأولى شهدت صيحة الميلاد، وخروج المولود/بطل الرواية إلى الحياة، أما السدرة الأخرى فقد كانت شاهدة على اللحظات الأخيرة من حياته، بعدما تعرض لعدة طلقات غادرة أودت بحياته، تسنى له رؤية أحد القتلة ففوجئ بأنه أحد أقاربه ليصرخ فيه عندما عرفه: أنت؟؟ على غرار النهاية التي ختمت حياة القيصر (كما رواها شكسبير)، بعدما تعرض لطعنة غادرة من صديقه بروتوس الذي طالما أحسن إليه، فصرخ قائلا: أنت يا بروتوس؟ وغدت تلك المقولة مثلاً لكل من يواجه الموقف نفسه.
والمؤلف الدكتور/ محمد مسعد إلى جانب ذلك، أستاذ أكاديمي متخصص في النقد العربي الحديث، وقبل ذلك كان طالباً متفوقاً في المدرسة والجامعة، ليتوج ذلك بالحصول على الماجستير عن رسالته القيمة "الصورة في شعر المقالح"، ثم الدكتوراه عن أطروحته "التناص في شعر البردوني"، وقد صدرت كل من الرسالة والأطروحة  في كتاب مستقل بعد ذلك.
استطاع الكاتب في روايته الجديدة التي أطلق عليها "رعب الساعة التاسعة"، تقديم عمل روائي جدير بالقراءة، ليس لكونه رواية أدبية لا حظ لها من الواقع، بل لأنها جزء أصيل من الواقع في لحظة زمنية حرجة، وإن كانت الإشارة إلى أن الرواية تتناول قصة تاريخية تبدو قاصرة لأنها ستحيل- لدى البعض إلى قصة تاريخية مجردة، بينما الحقيقة أن "رعب الساعة التاسعة" رواية جمعت بين التاريخ والأدب، بين الحدث والإبداع، الحدث التاريخي حين تصوغه يراعة أديب لا قلم مؤرخ، والإبداع حين يتضمن حقيقة ويستند على قضية ويكون عماده المبادئ والقيم التي آمن بها الشيخ الشاعري، وضحى في سبيلها حتى مات- مقتولاً- لأن تلك المبادئ لم ترُق لقاتليه. 
لم تأت الرواية تاريخاً مجرداً من لمسات الأدب والإبداع، كما لم تكن ضرباً من الخيال المحلق بعيداً عن الواقع وهمومه والمجتمع وقضاياه، ولقد استطاع الكاتب، وهو الناقد الحصيف والشاعر المبدع، أن يقدم نصاً نابضاً بالحياة، من حيث المضمون واللغة والسرد، ناهيك عن قدرة الكاتب على جعل الرواية تبدو كلوحة ناطقة بالملامح والتفاصيل والإشارات التي تضمنتها، الأمر الذي أكسبها المتعة والتشويق.
وبالنظر إلى تصنيفات الأشكال الروائية فالرواية تأتي في الغالب ضمن تصنيف "الأنا المشارك"، حيث الراوي المتكلم فيها شخصية محورية، وفي بعض أجزاء الرواية – خاصة في الجزء الأخير منها، يظهر تصنيف "المعرفة المتعددة"، هو التصنيف المناسب، لأننا نجد أنفسنا أمام أكثر من راوٍ، والأحداث يتم تقديمها كما عاشتها الشخصيات. (حبيب مصباحي، الراوي والمنظور، في: مجلة الأثر، العدد: 23 ديسمبر 2015، صـ: 181). 
وقد حفلت الرواية بالعديد من الصور الجمالية المتنوعة التي شملت الشعر والحكمة والوصف الآسر للمكان والشخصيات والوقائع، وكذلك الاقتباسات والمعلومات والحقائق التي أجاد الروائي توظيفها لإثراء النص، سيما وأنه جمع بين وقائع التاريخ وحقائق الجغرافيا إلى جانب لمسات الأدب والإبداع، لقد فعل ذلك بوعي وإدراك وخبرة طويلة، فهذا العمل الروائي يأتي بعد عدة روايات أصدرها الكاتب خلال السنوات الماضية، منذ صدور أولى رواياته الغادرة قبل بضعة عشر سنة، كما أن له عدة دواوين شعرية فضلاً عن كتب عديدة في النقد والبلاغة. ومثلما أفادته خبرته في السرد، أفاد أيضاً من شاعريته العذبة ومن ذخيرته النقدية واطلاعه الواسع.
تتحرك شخصيات الرواية – البطل وأقرباؤه وأصدقاؤه ورفاق دربه تبعاً لحركة البطل، وفي مستويات متعددة ومناطق مختلفة، بدءاً بقرية "الملحة" مسقط رأس البطل، ثم تتوسع الحركة نحو قرية "خوبر" قرية الفقه والعلم التي كان يقصدها الناشئة لطلب العلم وإجادة الفقه والحديث واللغة لدى أعلام خوبر وعلمائها من آل "باعباد" الأسرة التي لا تزال حتى اليوم منارة للعلم والأدب والفقه والقضاء.
في مراحل لاحقة من حياة الشاعري تتجاوز الحركة والأحداث محيط قريته وخوبر إلى مدينة الضالع، وكانت تعرف حينها بـ"إمارة الضالع"، وتخضع لاتفاقيات الحماية التي فرضتها سلطات الاحتلال البريطاني، وهي الاتفاقيات التي رفضها بنو الشاعري وشيوخهم وفي مقدمتهم الشيخ صالح- والد بطل الرواية، ثم البطل نفسه بعدما آل إليه منصب المشيخة عقب اغتيال والده بأيادي الاستعمار البريطاني.
خاض البطل مواجهات عديدة مع سلطات بريطانيا التي حاولت إخضاع منطقته "بلاد الشاعري" بالقوة والعنف لسطوتها أسوة ببقية المناطق المجاورة كالضالع وحالمين وجحاف والشعيب والمفلحي وردفان، وظل يقود حركة الاحتجاج والنضال ليس في منطقته وحدها- بل صار علماً بارزاً وقائداً معروفاً على مستوى الضالع وغيرها من المناطق التي كانت ترزح تحت نير الاحتلال الأجنبي، ومع أنه برز بصفته أحد قادة النضال والكفاح، إلا أنه كان يملك صفات أخرى، فقد كان شخصية اجتماعية يعمل في خدمة المجتمع من موقعه كشيخ للمنطقة، وكان شيخ علم بما توفر له من نصيب في هذا الجانب، وكان شاعراً يجيد الشعر الشعبي ويحفظ الكثير منه.
وفي فترة سجنه التي امتدت نحو عشرين سنة تمكن من قراءة أمهات الكتب، خاصة وأنه قضى سنوات طويلة – تحت الإقامة الجبرية- في محافظة حضرموت، بالقرب من المكتبة التي كانت تضم مصادر العلم والمعرفة في شتى المجالات، وقد أقبل على الكتب الموجودة فيها وقرأ بعضها مرات عديدة.
ويقسم النقاد السيرة الروائية إلى نوعين، يُدعى الأول بـ"السيرة الذاتية"، ويُسمّى الثاني "السيرة الغيرية"، فالكاتب في النوع الأول يعتمد على ما عاشه ومارسه وما مرّ به من تجارب وأحداث، ويكتب عن إحساسه الشخصي، أما كاتب السيرة الغيرية- كما هو حال الرواية التي بين أيدينا، فالكاتب فيها يعتمد على الوثائق والمعلومات التي جمعها، ويكتب عن الحقائق دون الأحاسيس والمشاعر، وهو ما فعله كاتب "رعب الساعة التاسعة"، بكل جدارة واقتدار.
وهنا يجد القارئ أن الكاتب أحسن في اختيار شخصية كان لها بالغ الأثر في مرحلة زمنية، لكنه لم يجد التقدير الذي يليق به، سواء في حياته أو بعد مماته، خاصة وقد مضى على استشهاده أكثر من نصف قرن، وبات من حق الأجيال التي جاءت بعد ثورة أكتوبر وسبتمبر أن تعرف الرموز الوطنية والاجتماعية التي أسهمت في تأسيس وعي وطني يرفض الاحتلال الأجنبي كما يرفض الاستبداد المحلي، ويحث على الحرية والاستقلال، كما أن الكاتب أحسن في تقديم عمل روائي متميز شكلاً ومضموناً.
وبفعل ما يمتلك الكاتب من قدرات وإمكانات سردية فإن قارئ الرواية يجد نفسه متنقلاً بين أجوائها، يعيش مع الشخصيات هناك في قرى الضالع وروابيها المتناثرة وجبالها التي تحيط بها، يستمتع بصباحات القرية حين تبدأ مبكراً مع أصوات العمال والمزارعين ورعاة الأغنام، ثم يجد نفسه مرة أخرى متابعاً فصول المعارك التي كانت تدور رحاها في تلك المناطق، ونتائجها وتطوراتها وتداعياتها، قبل أن يجد القارئ نفسه مستقراً مع بطل الرواية في أحد سجون مدينة الشحر بحضرموت، ثم في المكتبة التي صقل فيها معارفه وأثرى حصيلته، وكذلك في محطته قبل الأخيرة حين استقر في مسجد النور- أحد أشهر مساجد عدن، مع صديقه الصدوق الشيخ محمد صالح رجب، الذي ظل إمام هذا المسجد لفترة تناهز نصف قرن.
لقد استطاعت الرواية أن تسلط الضوء على صفحة مجيدة- رغم المعاناة والتضحيات فيها، وتمكنت بفعل ما أوتي كاتبها من معرفة وإلمام وما يمتلك من لغة وبيان، أن تقدم فصلاً من التاريخ كان يراد له أن يبقى طي الكتمان، أدرك الكاتب أن قصة الشيخ الشاعري التي أوقفت سردها رصاصة الغدر والخيانة، لابد أن تكتمل، لأنها "قصة ثورة شعبٍ مجيد، اغتالت نفسها بنفسها، وليست قصة رجل أو عائلة أو قبيلة..."، (الرواية، صـ206).
هي لوحة من التاريخ جاءت بين دفتي رواية، بعدما أخفتها الرواية الرسمية للتاريخ ذات اللون الواحد، وهي حكاية التقطها الكاتب من صميم الواقع الذي عاشه اليمنيون في فترة من الزمن، من الأوراق التي تناثرت وتبعثرت سنوات طويلة، وما كان لها أن تجمع مرة أخرى لو لم يتحل الكاتب بشجاعة المؤرخ وحرص الباحث، ويبذل في سبيل هذا العمل الكثير من الجهد والوقت والمخاطرة، حتى أثمرت جهوده عملاً جديراً بالتقدير ونصاً جديراً بالقراءة.