آخر تحديث :الخميس-02 مايو 2024-10:54ص

رياضة


الأمل الدائم لكرة القدم في اليمن

الإثنين - 30 يناير 2023 - 03:20 م بتوقيت عدن

الأمل الدائم لكرة القدم في اليمن

(عدن الغد) مركز سياسة اليمن:

استطاعت لعبة كرة القدم، عبر أجيال من عشاقها في اليمن، أن تصبح متجذّرة في الثقافة الشعبية لهذا البلد. وفي هذا المقال تسلط هلا السعدي الضوء على الدور الذي لعبته كرة القدم في خلق التماسك بين مختلف شرائح المجتمع اليمني، وتذهب السعدي إلى أن لدى كرة القدم القدرة على لعب دورٍ في توحيد الناس في أرجاء اليمن المختلفة.

 

ومع موسم كأس العالم هذا العام تحدق الأعين في كل العالم بالشاشات. وسواء كنتَ من محبي كرة القدم أم لا، فمن المؤكد أن الجماهير سوف تكتسحك بهتافاتها الوطنية ومعنوياتها العالية. بالنسبة إلى اليمنيين، أعاد هذا الجو لحظة من ديسمبر 2021، عندما فاز فريق كرة القدم اليمني للناشئين ببطولة غرب آسيا للناشئين.

 

وفي تلك المناسبة لم تعد الشوارع  في كل أحناء اليمن كافية لاحتواء الاحتفالات بعد الفوز. أضاءت الألعاب النارية السماء، وكانت لحظة رائعة من الفرح والتضامن بين اليمنيين داخل البلاد، وأولئك المنتشرين منهم في جميع أنحاء العالم. تجمَّع الناس في اليمن في حشودٍ ضخمة في الشوارع لمشاهدة المباراة النهائية. خارج اليمن، تبادلنا روابط البث المقرصنة لمعرفة النتيجة مع العد التنازلي للدقائق.

 

كانت الروح المعنوية خلال البطولة متوترة، لكنها مرتفعة كأن اليمن على وشك الفوز بكأس العالم. كل ذلك جعل نشوة الفوز ذات نكهة مميزة؛ ولاسيما أن ذلك الفوز قد ولد من رحم معاناة ونضال. لأول مرة منذ بدء الحرب، أعلن الجميع في جميع أنحاء البلاد الانتصار، وبدا أن خطوط الانقسام التي ابتُليت بها اليمن تتلاشى مؤقتًا وسط الاحتفالات الجماعية. تعالى صخب هتافات النصر على الإنترنت بنفس القدر مثلما كانت في الشوارع، وانتشرت الصور ومقاطع الفيديو للتهنئة على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

كان فوز فريق الناشئين لحظة مهمة تجلت فيها روح الحماسة الوطنية في جميع أنحاء اليمن، خاصة بعد سنواتٍ من الصراع الذي أفضى إلى حالة من الانقسام. وقد بدا واضحا للعيان أن لدى كرة القدم القدرة على أن تعزِّز روح الاعتزاز والتوحد لدى أبناء هذا الوطن حتى في أصعب الأوقات. خلَّف العقد الماضي في اليمن شعورًا بالهزيمة في أوساط الناس بمختلف أعمارهم وبتباين انتماءاتهم، وهذا هو السبب في أن ردة الفعل إزاء الفوز كانت عارمة: بدا كما لو أنه بصيص أملٍ.

 

أن تكون عضوًا في فريق الناشئين اليمني يعني أن هؤلاء اللاعبين كانوا بين 4 و6 سنوات من العمر عندما خرج المتظاهرون المناهضون للحكومة إلى الشوارع في عام 2011. يمثِّل هذا الفريق معارك اليمنيين ضد المحن، وكذلك إمكانية الحلم. هذه الموضوعات وثيقة الصلة بالعديد من الشباب اليمنيين منذ بداية الحرب، الذين يكافحون لكسب لقمة العيش لأنفسهم وأسرهم.

 

وعلاوة على ذلك، فإن الثقافة الرياضية ترتبط بالحكايات التي يرويها المجتمع عن نفسه. يتشبَّع التاريخ الوطني والذاكرة الجماعية بهذه الحكايات. ومع أن العديد من الباحثين قد لاحظوا العلاقة بين كرة القدم والهوية الوطنية، فإن الأمر في السياق اليمني، يبدو ذا طبيعة معقدة. في هذه اللحظة من تاريخ اليمن، من الصعب افتراض وجود فهمٍ موحدٍ للهوية اليمنية. هناك غموضٌ يكتنف الموضوع، خاصة بالنسبة إلى الأجيال الشابة، ومع ذلك بدا أن الزخم من هذا الفوز الكروي يعيد إحياء الذاكرة الشعبية والمشتركة لليمن، التي تغذي الروح الجماعية حول هذه الرياضة. بتعبيرٍ آخر: ربما توجد هوية وطنية لاواعية موحدة، يفهمها الناس من خلال كرة القدم.

 

كرة القدم لها تاريخٌ طويلٌ في اليمن، وبقيت أهميتها على الرغم من عدة فتراتٍ من التغييرات السياسية الكبيرة. بعد فترة وجيزة من إعلان الاستقلال عن البريطانيين، أصبحت كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في جنوب اليمن. بينما انتشرت شعبية كرة القدم في شمال اليمن بشكلٍ أبطأ في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، مقيدة بعوامل ثقافية وسياسية. تزعم الدراسات التي أجراها توماس ب. ستيفنسون وعبد الكريم العوج في عامي 2000 و2008، وهما باحثان درسا كرة القدم على نطاقٍ واسعٍ في اليمن، أنه في جنوب اليمن بين عامي 1965 و1967، اتصفت أندية كرة القدم بميولٍ وطنية شديدة، وشاركت بصورة مباشرة في حركات التحرير ضد البريطانيين. في وقتٍ لاحقٍ، تبنَّت هذه الأندية الأيديولوجية الاشتراكية.

 

صارت كرة القدم أداة للتعبير عن المشاعر المعادية للإمبريالية؛ أي أصبحت ذات مضامين مناقضة لما كانت تعنيه هذه اللعبة في بداية دخولها إلى مجتمع جنوب اليمن. في البداية، كانت كرة القدم فرعًا من فروع المؤسسة الإمبريالية، وفقًا لستيفنسون والعوج؛ دعم البريطانيون الأندية الرياضية لقواتهم، مع مشاركة محدودة من أعضاء النخبة اليمنية الجنوبية.

 

في أوائل السبعينيات بعد حصول كل من شمال وجنوب اليمن على الاستقلال وبعد أن أصبحتا جمهوريتين، صارت كرة القدم جزءًا من الأجندة الوطنية لكلتا الدولتين. حملت الفرق الوطنية والأندية المحلية قيمة رمزية كبيرة، ليس فقط من خلال المشاركة في البطولات المحلية ولكن أيضًا من خلال المشاركة في المسابقات الإقليمية والدولية. عملت كرة القدم، حقيقة ومجازا، على تعزيز مفاهيم الدولة والتوافق والتضامن بين أبناء الوطن. اندمجت القرى والمناطق الريفية مع الدولة من خلال فرق كرة القدم المحلية والبطولات الموسمية. سافرت هذه الفرق للتنافس بعضها ضد بعض على المستوى الوطني، وبذلك تأتّى للاعبين المنتمين إلى مناطق مختلفة أن يختلط بعضهم مع بعض.  كما حدث هذا أيضًا على المستوى الدولي. أصبحت المشاركة في المباريات في الخارج، بغض النظر عمَّا إذا كان الفريق قد فاز أو خسر، استراتيجية دبلوماسية لإظهار قوة البلاد.

 

يمتد إحساس الصداقة الحميمة الذي يسود عندما يحتشد المجتمع حول مباراة كرة قدمٍ إلى ما بعد التسعين الدقيقة التي تستغرقها المباراة نفسها. هناك جانبٌ طقوسي في كرة القدم؛ نظرًا إلى كونها لعبة بها نظامٌ وتكرارٌ وتكتيكٌ ورمزية. وُلد المجتمع المحيط بكرة القدم من أزقة الأحياء والساحات المهجورة التي يحتلها الأولاد الصغار. هذه المشاهد موجودة في مواقع مختلفة عبر اليمن. ينظّم اللاعبون أنفسهم في فرقٍ، ويتمكَّنون من العثور على الأدوات اللازمة لتقليد مباراة كرة قدمٍ احترافية. غالبًا ما تجذب مباريات الشوارع انتباه المارة الذين يمكنهم الانضمام إلى اللعبة كلاعبين أو مشجعين مبتهجين.

 

تتطور هذه الفرق غير الرسمية أحيانًا إلى فرقٍ أكثر رسمية في القرى أو المديريات، التي تتنافس بعد ذلك في المباريات على المستوى الوطني. الرياضة هي فرصة مُهمَلة لتعزيز أنشطة بناء المجتمع للفتيان والفتيات اليمنيين. تُعد كرة القدم لعبة جذابة سهلة الانتشار، تجمع مجتمعات اللاعبين وأنصارهم معًا من خلال المنافسة الصحية. يمكن للرياضة أن تذيب الخلافات الاجتماعية والدينية والثقافية. من خلال ذلك، يمكن أن تساهم في بناء السلام ومحاولات إعادة هيكلة المجتمعات الممزَّقة. حدث هذا في بلدان مختلفة في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، خلص بحث في الكاميرون إلى أن كرة القدم ساهمت في بناء شعورٍ بالدولة القومية وتعزيز التماسك الاجتماعي.

 

وعلاوة على ذلك، فقد استطاعت كرة القدم أن تجمع حولها أجيالًا مختلفة من اليمنيين بطريقة عزَّزت بناء المجتمع. لاعبو كرة القدم من السبعينيات والثمانينيات هم الآن المدربون والإداريون، وأكبر المعجبين باللاعبين الحاليين. يُعد الكثير من هذا العمل في مجال كرة القدم تعاونيًّا وذا قدرة على الاستدامة الذاتية. وعلى سبيل المثال، فإن قيس محمد صالح، مدرب المنتخب الوطني للناشئين، هو نفسه لاعب كرة قدم سابق. لعب صالح لمدة عقدين بين عامي 1992 و2013 مع نادي التلال في عدن، أقدم نادٍ في شبه الجزيرة العربية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هواة ولاعبين من الجيل الأكبر سنًّا لا يزالون يلتقون في مجموعات على موقع فيسبوك لاستعادة ذكريات ما يصفونه بـ «الأيام الذهبية» لكرة القدم اليمنية.

 

بين عامي 1980 و1989، كان والدي خالد السعدي يلعب كرة القدم بشكلٍ احترافي لصالح نادي كرة القدم العسكري في عدن. وعلى عكس الفرق الشعبية القادمة من المدن أو القرى، فإن أندية كرة القدم العسكرية كانت توفر بيئة أكثر انضباطًا لممارسة اللعبة. في تلك الأيام، أُقيمت العديد من مباريات كرة القدم في الملاعب الرملية قبل أن يصبح العشب هو الشائع في أرضيات الملاعب. ومع ذلك، فقد كانت الحماسة عالية تجاه كرة القدم . قال لي والدي مؤخرًا في محادثة هاتفية عن الوقت الذي قضاه في لعب كرة القدم بشكلٍ احترافي: «كانت المباريات دائمًا مليئة بالمشجعين الذين كانوا يأتون للتعبير عن فرحتهم. لقد كانوا يأتون من جميع الأنحاء لمشاهدة المباريات وتشجيع قائمة من اللاعبين الذين يشكِّلون الآن تاريخ كرة القدم في جنوب اليمن».

 

منذ صغره لعب والدي في شوارع الأحياء ” الحافات” والتقى بزملاء عديدين من اللاعبين، وسافر إلى جميع أنحاء جنوب اليمن للعب المباريات. بعد انضمام والدي إلى النادي العسكري، سافر فريقه للعب مباريات تنافسية وودية في مناطق مختلفة الاتحاد السوفيتي، وكذلك في دول إفريقية مثل الصومال وإثيوبيا.

 

قال والدي إنه يعتبر كرة القدم حجر الزاوية لمجتمعه. «معظم الأشخاص الذين تربطني بهم علاقة صداقة مديدة تزيد على ثلاثين عامًا التقيت بهم أثناء لعب كرة القدم. كرة القدم هي لعبة جماعية تجمع البشر معًا، وقد أخذ بعض الناس اللعبة على محمل الجد بصورة زائدة عن الحد، لكن كرة القدم في جوهرها تدور حول العمل الجماعي وليس الانقسام».

 

وفي الوقت نفسه كان أفراد المجتمع الأكبر في عدن يجدون الأمل والإثارة في التطلُّع إلى فوز فريقهم المحتمل: «كانت لحظات تسجيل الأهداف ولحظات تحقق الفوز تثير مشاعر لا توصف في أوساط الجماهير، وبعد ذلك تصبح المباراة موضوعًا ساخنًا بين الناس. فكرة القدم كانت في عهدنا هي النشاط الأكثر شعبية».

 

شكَّلت كرة القدم، أيضًا، وسيلة لرأب الصدوع التي ابتُلي بها المجتمع العدني خلال الثمانينيات. بحلول ذلك الوقت، كان عقد قد مضى على استقلال جنوب اليمن وعلى تنفيذ مشاريع الإصلاح السياسي وصعود وسقوط الأحزاب القيادية. وعلى الرغم من أن الصراع السياسي كان مختلفًا من حيث السياق في ذلك المكان والزمان، فإن حالة عدم اليقين والانقسام على المستوى الوطني تشترك تشبه، في بعض وجوهها، ما يحدث في يمن اليوم.

 

إنّ مما يرتبط بوجود كرة القدم ارتباطا عضويا لازما وجود إمكانية كبيرة لبناء روح الجماعة والتضامن. ومن هنا، فإن الرياضة توفرا فضاء صالحا وخصبا لمناقشة وبناء مفاهيم الهوية/الهويات الوطنية، وتلك ميزة تتوفر بتلقائية ويسر في حقل الرياضة؛ ولا تكاد توجد في غيره من الحقول الأخرى في اليمن إلا بشق الأنفس. أضفْ إلى ذلك ما تتمتع به كرة القدم من حيث كونها حبا خالدا لها عشاقها الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة في هذا البلد.

 

ولنأخذ حالة شاب يمني من فريق الناشئين لنسلط الضوء، من خلالها، على كيفية جذب كرة القدم لجماهير يمنية تنتمي إلى مناطق مختلفة من البلاد. تابع الصحفي عبد الله علي قصة حمزة محروس، الذي نزحت عائلته من الحديدة عام 2017، بعد قتالٍ عنيفٍ أجبر الأسرة على الفرار إلى تعز. ومع ذلك، بالنسبة إلى حمزة وعائلته، كما هو الحال بالنسبة إلى العديد من اليمنيين، فإن الهروب من العنف لا يعني بالضرورة العثور على الأمان، حيث إن مدينة تعز تعرضت للدمار الشديد بفعل الحرب، وحُرمت أيضًا من الخدمات الأساسية. على الرغم من هذه المحنة، استمرَّ حمزة في متابعة شغفه بكرة القدم في مجتمعه الجديد. في أثناء اللعب في فريق مدرسته، تم اكتشافه لينضم إلى فريق الناشئين في عام 2019، ومن هناك انضم إلى فريق الأبطال.

 

كرة القدم مليئة بقصص المستضعفين الذين تغلَّبوا على الصعاب ووجدوا فرصًا للازدهار. تستحوذ هذه القصص على خيال المشاهدين وتبثُّ الأمل حتى عندما تكون الحياة مليئة بالنكسات. في حالة حمزة، على الرغم من أن ظروفه أجبرته على الفرار من منزله والعمل في سنٍّ مبكرة لإعالة أسرته، فإنه كان لا يزال يحلم بالملعب. التحق بنادي أهلي تعز، وهو النادي الذي نشأ معجبًا به. بالنسبة إلى حمزة، فإن لعب المباراة هو وسيلة للتعبير عن الانتماء إلى الأمة اليمنية بأكملها، «نلعب ونحمل آمال 30 مليون شخص»، هي جملة كرَّرها في عدة مقابلات.

 

ربما سيخرج بطل اليمن الوطني المستقبلي من نفس الأزقة مثل والدي أو حمزة. شهد التاريخ أن أساطير كرة القدم تأتي من أماكن دمَّرها العنف والفظائع. أحد الأمثلة على ذلك قصة جاءت من مدينة نابولي، الواقعة في جنوب إيطاليا. كانت نابولي، التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة والجريمة المنظمة والتهميش الاقتصادي الممنهج، واحدة من أفقر المدن في إيطاليا، مما جعل الحياة فيها عرضة للوصم بالكثير من الصور النمطية السلبية. كانت المدينة في حاجة إلى بطلٍ، وهنا، أتى دييجو مارادونا، الذي جلب لنابولي شعورًا بالخلاص. كتب الصحفي جون فنسنت للمجلة الثقافية «إيتالي سيجريتا»: «من خلال كرة القدم، منحهم مارادونا المغزى والغاية والفخر». وبالانتقال إلى حالة اليمن، فقد جلب لاعبو كرة القدم اليمنيون الشباب هذا النوع من الأمل والفخر للناس في جميع أنحاء اليمن مرة أخرى؛ الأمل الآن هو أن تستمر كرة القدم في لعب هذا الدور في توحيد الناس.

 

 

المقال المصور كتبته هلا السعدي وطوره أحمد الهجري ولؤي أمين.

تم تحرير النص بواسطة لورا كاسينوف، وتحرير جاتيندر بادا، وترجمته إلى العربية إيناس التركي.