آخر تحديث :الجمعة-24 مايو 2024-12:06م

أخبار وتقارير


قبل أن يموت جهاد أماتوا إذاعة عدن وصادروا تلفزيون الجنوب

الأربعاء - 12 أكتوبر 2022 - 05:56 م بتوقيت عدن

قبل أن يموت جهاد أماتوا إذاعة عدن وصادروا تلفزيون الجنوب
الإعلامي المتوفى جهاد لطفي جعفر أمان

كتب/سعيد علي نور:

بعيدًا عن هذا الضجيج وتلك الضوضاء السياسية والعسكرية , وبعيدا عن كل هذه الجلبة : التي تزعج الملائكة في ليلة القدر- كما عبر الطاهر بن جلون- رحل الصديق العزيز والزميل الاعلامي القدير جهاد لطفي أمان ؛ ذلك المذيع الأنيق , الوسيم  ذو الصوت الرخيم .. نعم , لقد رحل رحيل النبلاء, رحيلا هادئا يشبه هدوءه وسكينته في حياته وفي علاقاته بمن حوله,  تماما كما يشبه أداءه الإعلامي الرصين ,المحايد ,على مدى نصف قرن من هذا الزمن المزدحم بالفوضى .

منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي , وربما من قبل ذلك , طالما استمعنا اليه من اذاعة عدن أو شاهدنا طلعته في شاشة التلفزيون الجنوبي وهو يستهل النشرات: اليكم نشرة الأخبار .. يقرأها جهاد لطفي )) لم يكن جهاد وحده من يكرر هذا المستهل أو يردد مقالة: إذاعة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية , من عدن )) فقد اشترك معه في ذلك مذيعون كبار , منهم من مات حتف أنفه ومنهم من قتل ومنهم هاجر الى أرض الله الواسعة لأسباب كانت ومازالت تلقي بضلالها حتى اليوم .لقد كانوا (كبارا) بكل ما تعني كلمة ( الكبار) من معاني الكفاءة ,الاقتدار, الخبرة , الموقف و الاعتزاز بالذات والارتداد بالجنوب هوية ووطنا.

 كنت - ومازلت- أزعم أن صوت جهاد لطفي ينحدر من سلالة الأصوات النبيلة , الجمهورية , الممتلئة بالفخامة والرخامة ، وقد وقفت على هذا السر الوراثي عندما استمعت إلى تسجيلات , في أرشيف الإذاعة , بصوت أبيه الشاعر الكبير الراحل لطفي جعفر أمان ,  وهو يلقي قصائده , في خمسينيات القرن العشرين , بأداء يجمع بلاغة الصوت إلى بلاغة الكلام.

وقد حدثني الصديق الكبير الشاعر د. عبد العزيز المقالح بأنه يحتفظ في مكتبته الخاصة بشرائط عليها تسجيلات بصوت لطفي أمان تعود الى أواخر الخمسينيات , عندما كان المقالح مذيعا في اذاعة صنعاء , وقال : إن صوت لطفي يقاسم شعره روعته مناصفة.

وهو ذات الصوت الذي ورثه جهاد لطفي, وكان يصلح لأكثر من مجال إذاعي لكن جهادا  -رحمه الله - أثر أن يخوض معظم تجربته الاعلامية قارئا للأخبار والتقارير الاخبارية , ولو لم يكن له إلا ذلك لكفى, وان كنت أشير هنا الى أنه قدم عددا من البرامج لبعض الزملاء من المعدين , وكانت لي تجربة معه عندما قدم برنامجين من اعدادي, من برامج  رمضان , احدهما بمعية المذيعة الكبيرة سهام عبد الحافظ والاخر بمعية المذيعة القديرة لولة محفوظ , على مدى ثلاثين حلقة لكل برنامج.

وإلى ذلك فقد جرب الراحل العزيز جهاد لطفي تجربة الإعداد والتقديم, فقد أعد وقدم  - رحمه الله - برنامجا بعنوان (قصاصات ) ان لم تخني الذاكرة , كان ذلك في السنوات الأولى من القرن الحالي ونجح نجاحا ملحوظا في مناقشة كثير من القضايا السياسية والثقافية والمجتمعية وحظي بالاعجاب والمشاركة من قبل كثير من مستمعي إذاعة عدن في الداخل والخارج , ولا يتسع المقام للمزيد من الكلام عن جهاد لطفي المذيع, على كثرة ما ينبغي قوله.

وكذلك عندما يتعلق الأمر بجهاد لطفي  (الانسان ) فالحديث عنه يطول, على نحو لا يمكن إجماله في فقرات تأبينية كالتي أكتبها عنه , فمن لا يعرف جهادا  عن كثب يظن , للوهلة الأولى , من ظاهره أنه قليل الاختلاط , يؤثر الصمت والاهتمام بشؤونه الخاصة عن الانخراط في الشأن العام , وتلك خصلة فيه فعلا , غير أنها تخفي وراءها خصالا أخرى لا يعرفها عنه إلا من اقتربوا منه.

وأزعم أنني قد اقتربت منه وعرفت عنه الكثير , فلطالما التقينا في الاذاعة في العقد الأخير الذي سبق الحرب على الجنوب , وكثيرا ماعدنا معا – بسيارتي – الى مدينة خور مكسر حيث يسكن و أسكن , وزادت تلك اللقاءات بعد اغلاق اذاعة عدن وتلفزيونه إلى أجل غير مسمى ! كنا نلتقي في سوق الخضار والسمك وفي موعد استلام الراتب , وأكثر تلك اللقاءات تكرر في الشارع الذي فيه سكنه بجانب الجامعة اللبنانية حيث كنت أتردد بشكل شبه يومي لتوصيل ابنتي الى الجامعة أو العودة بها , وفي كل تلك الأماكن جمعنا الحديث والذكريات , وعن كل تلك الأماكن فرقنا رحيله.

لقد كان حميما بامتياز ومنظما في حياته ومرتبا في هندامه وجادا في خياراته , وإلى ذلك كله كان (صاحب نكتة ) كما يقال في العامية , حدثني ذات يوم عن كسرا اصيب به في يده استدعى إجراء عملية جراحية لتثبيت العظم بمسمار , فقال له الدكتور : عليك أن تعود بعد فترة لإجراء عملية أخرى لإزالة المسمار فقال جهاد  بلهجته العدنية : يعني باتفتح يدي تاني مرة يادكتور ؟ ليش ماتعمل سسته من الان , علشان بعدين تفتح السسته براحتك وتخرج المسمار بلا جرح وتعب قلب )) رحم الله جهاد لطفي رحمة الأبرار وسنحتاج إلى وقت طويل حتى يظهر إعلاميون أكفاء بحجم كوادر إذاعة وتلفزيون عدن الذين صاروا عاطلين عن العمل بعد اغلاق الاذاعة ونقل التلفزيون الى خارج الوطن الجنوبي ؟ لقد كان الانتقالي منصفا في النعي الذي أذاعه عندما قال : لقد رحل جهاد في وقت نحن في أمس الحاجة إلى خبرته وقدراته الإعلامية )) ! على حين أن جهادا وغيره من كوادر الاعلام الجنوبي المجربة قضوا حتى الآن ثماني سنوات وهم عاطلون .. لم تشفع لهم خبراتهم وقدراتهم , لاعند ( الشرعية ) ولا عند (الانتقالي ) وبقيت الإذاعة وبقي التلفزيون مغلقين !