آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-11:53ص

أدب وثقافة


النافذة

السبت - 24 سبتمبر 2022 - 09:15 م بتوقيت عدن

النافذة

بقلم: الدكتور: الخضر حنشل

غادرت أسراب الطيور الحقل محلقة في السماء الصافية،بعد أن اكتسح الظلام الحقل،وعاد الهرش من الحقل متجهاً صوب منزله القابع في الطرف الغربي لقرية مسعود عاد منشرح الصدر تعلو وجهه ابتسامةً مشرقة غير عابئ بشدة التعب،والجهد المضني الذي بذله في حصاد الحقل؛وعلى مقربة من الباب،وفقت بهجة ترنو إليه بشوق،ولهفة متسائلاً بصوت حنون:لم تأخرت الليلة كثيراً  في الحقل؟.
ـ لقد كان الحقل فسيحاً،وقد بذلنا اليوم في الحصاد جهداً مضاعفاً؛ولكن عندي لك مفاجأة سارة...
. خير إن شاء الله!
. لن أقولها إلا بعد أن تحضري لي فنجان القهوة،وعلبة السجائر.
مضت على عجل، وسادة صمت برهة ثم نطق الهرش بصوت لا يخلو من سعادة غامرة:
. العم صالح جارنا قابلته قبيل الغروب بعد عودتي من الحقل؛وأخبرني أنه يريدني في أمر مهم.
. في ماذا يريدك؟
. قال لديه عرس لقريبه في قرية القلعة؟
. وما شأنك أنت بذلك؟
.قال لي :إن السمر والدان لن يحلو بغيري.. وهو يدعوني لإحياء حفل العرس،ولم أتردد.
. والله زمان ياهرش يبدو أنك نسيت حرفتك،وحرفة آباءك التي كنت بارعاً فيها.
تنهد الهرش طويلا،وحملق في الفضاء اللا متناهي، وسرح بخياله صوب الماضي البعيد؛فقال في نفسه: يا لها من أيام جميلة خلت، كنت برفقة أبي منذ نعومة أظافري نجول القرى من عرس إلى عرس؛ ومن فرح إلى فرح، ومن بهجة إلى بهجة، وكان الناس كرماء نحظى بكثير من التكريم، والأموال؛وأما اليوم فلا مكان للفرح في نفوس كثير من أهل القرى.. تحللت ذاكرته فنفضت من خلاياها كل مكنوزها، وتقهقر الحاضر حتى كاد أن يذوب في مد من النسيان؛وغشيه حزن عميق واغرورقت عيناه بالدموع حين لاح طيف أمه التي كانت تدعو الله له عند كل عرس أو مناسبة..تذكر صوتها الرءوم وهي تقول: الخير قدامك.. والرزق في دارك.
. أقبلت بهجة مسرعة رشيقة كعادتها،وفي يدها وجبة العشاء؛وعاد السؤال ينفلت من فمها، ويطرق أذن الهرش... أين سيكون زواج أقرباء العم صالح؟
قاطعها قائلا: ابحثِ  عن الطبل القديم،وآتي بالحبل،ولوازم العدة.
 في ساعات السمر،والطرب تصفو نفوس سمار أهل القرية، ويجمعهم جامع السمر.. تنشرح صدورهم وتفيض بالحب لكل شيء.. أنهم يتحررون من التعصب،والخجل،والحسد،ويتطهرون من أشباح الكبر،والمرض أنهم يسبقون حاضرهم بقرون كثيرة؛ كانت حناجرهم تترنم بأصوات شجية ساحرة فيفيض المكان بالحبور،والسعادة،ولسان حالهم يقول: لا باس أن ننسى سويعات من الزمن مع كثرة الهموم،وقلة المال.. كانوا يرددون أغنية جماعية في صفين متقابلين،وكان الهرش يبدى أقصى ما عنده من مهارة في ضرب الطبلة تحت أعين الجميع ليحظى بإعجابهم وسخاهم؛ ويتيه زهواً إذا سمع من يثني عليه علناً.
 كان القمر يتوسط كبد السماء في ليلة خريفية ساحرة.. وفي هذه الأثناء تعالت الأصوات، وأخذ الناس في التصفيق الشديد .. وترددت الأبصار بين التحديق فيه،وبين استرقاق النظر إليه.. كان لابد أن يلفت الأنظار فرجل يلبس جاكتاً أزرقاً، ونظارة سوداء، وينزل من سيارة فارهة لابد أن يلفت الأنظار.. كان يسير متبختراً كالطاؤس يلفه مجموعة من الرجال المعاونين يتقدمهم رويداً..رويداً ليأخذ دوره في الرقص ويتمايل مترنحاً في رقصة بطيئة لم تكن بتلك الخفة المعتادة عند سكان القرية..تفرس الناس في وجه الغريب في ذهول وأخذوا يرمقونه بنظرات انبهار وذهول، كان يرقص،ويترنح شمالا ويميناً،ويدس يده في جيبه؛ويرمي في الهواء نقوداً ورقيه مختلفة الألوان،والأشكال..كانت النقود تتطاير في سماء تلك البقعة الترابية؛كأنها فراش محلقة؛ومعها ينتفض قلب الهرش، ويكاد أن يطير من بين أضلعه لم يصدق ما يراه.. قال في نفسه:إنها نقود وفيرة..فحمد الله كثيراً وشكره الذي ساق إليه هذا الرزق بعد طول انقطاع.
اعتاد الناس في القرى منذ زمن بعيد أن النقود التي ترمى في حفلة العرس تكون من نصيب الطبال.. كان الهرش منفعل الصدر مشغولا بضرب الطبل،ويوزع نظراته هنا،وهناك،ويراقب عن كثب حركت ولده أحمد ،وهو يحاول .مع صغر سنه. جمع ما تيسر من النقود، ويحثه على جمع النقود،وملاحقتها عند هبوطها.
 ساد هرج،ومرج وتداخلت الأصوات،وبدأ الناس يتدافعون بالمناكب لجمع ما تيسر لهم من النقود الذي لم يكف صاحب الجاكت الأزرق عن رميها في سماء تلك البقعة،تاه أحمد في تلك الجموع؛ولم يقو على مزاحمة الكبار،ومع ذلك فقد جمع ما تيسر له من النقود الورقية.
 في بداية الأمر ظن الهرش أن المتدافعين سيجمعون النقود .كما هي عادة أسلافهم. ويسلموها له إجلالا وتقديراً لما قام به،ولكن خاب ظنه فما أن انتهت تلك الليلة الليلاء حتى مضى كل واحد فرحاً بما غنمه من تلك النقود التي رماها صاحب الجاكت.. مضوا كلهم غير عابئين بنظرات الهرش،وغضبه .
 أخذ ولده وجمع عدته بعد أن أوشك الفجر على البزوغ، وعادا إلى المنزل،وهو يضرب كفا بكف؛ويتمتم حنقاً:يا لهم من أناس سخفاء لقد تمزقت العلاقات القديمة،وفنيت صلاتها الحميمة وعوائدها بفناء الرجال الأوفياء الشرفاء.. سكت برهة ثم قال متعجباً:ياترى من هو ذلك الشخص الغريب الذي يملك كل تلك النقود أنها واحدة من العجائب الكثيرة التي تقع بين كل مطلع شمس وغروبها في زماننا هذا .. ولكن ما علينا ياولدي الخير فيما تيسر جمعه من النقود .
وصل الهرش إلى الحقل متأخراً بعد شروق الشمس متثاقلا كسولا، مثقل الرأس من طول السهر ،محاولا شحذ همته لملاقاة المتاعب في حصاد الحقل،وما إن وصل الحقل حتى بادره رفيق عمره وزميله في المدرسة المعلم سعيد سالم..قائلاً: كانت ليلة جميلة ياهرش وأبدعت فيها كعادتك المعهودة.
. هل كنت معنا يا سعيد؟
. نعم ؛ولكن لم ترني لشدة الزحمة،وانشغالك بضرب الطبل.
. أكيد رأيت ما حصل؟
. نعم ..نعم الناس أخذوا الفلوس..و..و؟
. ليس هذا هو المهم يا سعيد؛ولكن من هو ذلك الشخص الغريب المبارك الذي تفضل بكل هذه النقود؟
. أنك تعرفه حق المعرفة؟
. لا أعرفه مطلقا؟
. أنه واحد من تلاميذك أيها المعلم الهرش؟
من حنايا الماضي سرى إلى قلب الهرش شعور ودود أليف..فقال بنبرة متهدجة: من تلاميذي لم أعد اذكر أسماء كل من درس عندي فهم كثر؛ولكنهم ضاعوا من الذاكرة لم يعد لهم وجود،ولم يعد من السهل أن أسال عن مصائرهم .
. أنه لم يكن مجهولا بل كان واحداً من الآحاد التي يشار إليها بالبنان؟
. أكيد كان من أوائل طلابنا.. يا سعيد؟
. على مهلك لقد ذهبت بعيداً فهو  لم يكن منهم، ولكنه ذلك الفتى المسمى عامر الطحس الذي لطخ نافذة المعلمين بالطباشير الملونة،والقاذورات؛وشرد فتبعه مدير المدرسة عبدالله رحمه الله..أنسيت ياهرش كيف كان المدير يطارده في باحة المدرسة في موقف مضحك لا ينسى ومن يومها ترك الدراسة ومضى إلى المجهول؟
.نعم.نعم ذكرته يا له من فتى غريب؛فقد كان شقياً مشاغباً غير مكترث بالتعليم،وبسبب مطاردته وقع المدير يومها على الأرض بسبب بدانة جسمه رحمه الله؛ولكن أين يعمل الآن ..ومن أين له كل هذا؟
.يقولون إنه صار شخصية مهمة في الدولة كما رأيت.
 سرح الهرش بخياله إلى  الزمن البعيد؛ وقال في ذاته: ثلاثون عاما أو يزيد عشنا في مدرسة النور حياة الحضور الكامل وهي أقصى ما يستطيع أن نمارس من خلود على وجه تلك البقعة الطيبة عشت السرور بلا بقاء،كما عشت الحزن بلا دموع،ومضى الأحبة كورق الخريف مضوا غالبيتهم ؛ ومضت نسمة  العمر خديجة التي كانت تطل من تلك النافذة التي لطخها الفتى عامر أنها الآن تحت الثرى، وشرد بفكره بعيداً.. بعيداً فتذكر العم حميد وهو يرفض طلبه حين تقدم لابنته المعلمة الرائعة الودودة خديجة؛قائلا في جفاء وسخريه:هل سمعت أن الحمار تزوج الفرس..أنسيت ياهرش أصلك أم غرتك الأماني؟لقد تمنى الهرش في تلك اللحظة أن يجري إلى حبيبته خديجة ليبكي بين يديها ويقول لها إنه مظلوم،وحزين،ومنكسر.
حدق الهرش في الأفق البعيد،وتذكر صورة خديجة التي لم تفارق خياله منذ أمد بعيد..سمع صوتها الرخيم؛وهي ترنو من تلك النافذ وتخاطب التلاميذ برفق ليلزموا الصمت ويبتعدوا عن اللعب تحت النافذة؛لقد ظلت تلك النافذة شاهدة على تلك السويعات العذبة التي كان الهرش يتبادل فيها الحديث مع الزملاء، والزميلات،كانوا جميعا سعداء وتزداد سعادتهم حين يطلوا من تلك النافذة على زخات المطر وهي تهطل على سفح ذلك الجبل المحاذي للمدرسة..لقد تبدلت معالم المدرسة،وصارت خاوية على عروشها، وبدت النافذ بالية متهالكة لم يعد يطل منها أحد.. أنها تنتظر بين حين،وآخر من يقتلعها ويرمي بها فوق ركام من الأخشاب والحجارة كغيرها من أدوات المدرسة المرمية.
غامت السماء فحجبت شمس الظهيرة عن الحقل فسمع الهرش صوت زميله سعيد يناديه من طرف الحقل لتناول وجبة الغداء.
 
بقلم: الدكتور: الخضر حنشل