آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:58ص

أدب وثقافة


انساق الأسئلة القلقة ومغايرتها في تناسل الصورة الوامضة في تجربة "مازن توفيق" شاعر التفاصيل الصغيرة والدهشة

الخميس - 18 أغسطس 2022 - 05:56 م بتوقيت عدن

انساق الأسئلة القلقة ومغايرتها في تناسل الصورة الوامضة في تجربة "مازن توفيق" شاعر التفاصيل الصغيرة والدهشة

أبين(عدن الغد)خاص:

كتب / بسام الحروري

قليلون هم من يبثون ومضاتهم  فلاشات متداعية التكثيف مركزة الاختزال ، يضمنونها رؤى تنثال في انزياحاتها المتداعية يؤطرها إيقاع مموسق،ولعل مازن توفيق أبرز هؤلاء إن لم نقل أفضلهم، وهو يتصدر المشهد الشعري الشبابي بنثره الوامض، أو بومضاته الشاعرة ، ذلك من خلال مسرحته لقصيدة الومضة والاشتغال على تكنيك الاختزال والتكثيف ،وأعني بمسرحة القصيدة المساحة أو الخشبة التي يقتطعها توفيق في ومضاته لتكون ملعبا ومسرحا مؤثثا على نحو جمالي سينوغرافي متكامل ، لتكاثر كائناته الشعرية وفي مساحات، وحدود متباينة، بحيث لا تتمدد المفردات لتغطي مساحة معينة على حساب أخرى شاغرة
وهو ما يؤكد بلاريب براعة شاعرنا الناثر وهو يوزع تقاسيمه على تلك المساحات الفنية على طريقة التقنية المستخدمة في خشبات المسرح (الميزاسين) أو على طريقة تموضع الجداريات والجرافيت او الفسيفساء بحيث يضع في حسابه رأب المساحات الصغيرة بتفاصيل صغيرة تزيد من جماليتها وإبهارها
كما انه من ناحية جمالية أخرى يتناص مع مدرسة (الموزاييك) وهو المذهب الأدبي أو المدرسة التي انتهجها القاص الكبير يوسف إدريس مع الأخذ بعين الاعتبار فارق الاختلافات الشكلية بين الجنسين الشعر والقصة وإن كان ثمة علاقة فهي الإبداع والشاعرية ،وبمعنى آخر التقليل من الكم اللفظي واعتماد التكثيف والاخترال في الطرح حيث تقودك الرؤية والتجلي إلى استمالة الإلهام وتأطيره وتضفيره على شاكلة منمقة من خلال المغايرة التي يعتمدها الشاعر وهو يوشي الفاظه ومصطلحاته تاركا لها وللإلهام توجيه بوصلته الروحية وهي تتناسل متبرعمة في خطوط التفاصيل الصغيرة والكبيرة ،

فشاعرية الشاعر عامة لا ترصد ولا يلقي لها النقاد أو القراء بالا، إلا إذا ارتبطت بشكل مباشر بالتفاصيل الصغيرة
بحيث تظل على تماس وصلة مباشرة بالتفاصيل ،فالتفاصيل الصغيرة هي من تصنع الفارق في تضافرها وتكاملاتها توجهات الشاعر وبها تتشكل حاجاته الملحة إلى التغيير الإبداعي  الذي يقود بدوره إلى التفرد والتميز وهو ما يجترحه شاعرنا في ومضاته الباهره التي باركها الكثير من شعراء عدن الكبار 
ومازن توفيق بحق شاعر التفاصيل الصغيرة يلعب على المتناقضات في مفارقاته الحكائية الوامضة وأقول (الحكائية هنا) لاكتناز ومضاته على تنوعيات القصة الشاعرة
فهو تارة يحكي لنا قصة تشكل الأرض في ثنايا إنفجارها الجمالي العظيم الذي يرصده مازن توفيق في لوحات أعراسه ومهرجاناته وخرائبه ،

كما يرصد لنا من جانب آخر الحرب حين تحصي ضحاياها وهي ذاهبة إلى هزائمها وخساراتها ، والكثير المثير من الحكايا بمفارقاتها يضمنها شاعرنا موسيقاه وإيقاعاته يرفدها بمخزونه اللغوي وثقافته الراقية .

وكنت أخبرت زميل لي ونحن نتداول الحديث عن شاعرية توفيق حين أقرأ ومضاته أستشعر وكأنه في ليلة حالمة تتراقص فيها حبات المطر مع إيقاعات الضوء المموسق 
ان احتشاد الكم الهائل من المعاني الإنسانية السامية وكيفية قولبتها بسلاسة وحرفية ليصنع من التضادات لوحات جمالية تنسجم وتتآلف في سرياليتها الألوان والملامح والتقاطيع والخطوط والتداخلات لتنبع وتتهادى من أجواء عالم توفيق الحالم والمشع بالألوان رغم اقتصاده بالكلمات واشتغاله على الاختزال والتكثيف
وإذن دعك من الجماليات العادية والمألوفة المستهلكة التي يطعم بها بعض الشعراء ويوشون قصائدهم وفتش في مفرادات توفيق وخبايا مفارقاته كيف يطوع الدمع والألم والنزيف والاحتراق والغبن ،الضيم والعجز والصراخ والإنهيار والمرض والموت ليصنع منها كائنات جمالية ! وهذه النظرة لا تتأتى لمتذوق عادي لرصدها والسفر في بعدها الجمالي

إنه بالفعل طباخ لغة ومثقف متمكن من أدواته وهذه الميزة التي منحت قصائده تأشيرة عبور نحو التألق والتميز والبقاء في هذا المصاف لأن البقاء هنا مستحيل أن يؤتى إلا لمثقف والمثقف الأديب الشاعر فقط من يمتلك صك البقاء دونا عن غيره من الظواهر الصوتية المتأرجحة والراحلة مع أول هبة ريح
فالمغايرة هنا خلق وتشكلات تنبثق من نصوص (الحساسية الجديدة) التي يحذوها شعراء الحداثة ومابعد الحداثة لاسيما 
النصوص التي تتجرد من سياقاتها المختلفة بمافيها التاريخي و الايديولوجي والفكر المؤطر ضمن خطوط حددت سلفا
وكذلك نصوص توفيق حين تقرأ في السياق العام تندرج ضمن هذا الملمح ، فمن ضمن التفاصيل الصغيرة هناك تفاصيل أكبر تشكل توجهات شاعرنا وميوله ورغباته وهمه الخاص والعام إنها التفاصيل التي تندرج ضمن إطار السياق العام وهي جزء من الهم الوطني والحياتي حيث تسير في خط يتوازى مع خطوط أخرى ذات صلة ، فتتشكل منها شخصية الشاعر وقضاياه كقلق الأسئلة الوجودية إلى جانب  القيم والمبادئ والثوابت إضافة إلى هاجس الحرب والدسائس والمكائد التي يجملها مازن في إطارها الإيقاعي والموسيقي الوامض بينما لا يجردها بالمقابل من معناها الحقيقي بأثره الواخز حتى لايخدع او يراوغ أو يخاتل المتلقي فالحرب هي الحرب وكذلك الدئسائس والمكائد والمصائب والآلام لكن تكمن حرفية توفيق في تقليل الصدمة 
التي تتوارى خلف جمالية الإبهار التي يتبعها شاعرنا حشد جمالياته لترميم الشروخ التي قدتتركها مصطلحات مؤلمة وحادة ومزعجة للطرف الآخر واعني به هنا المتلقي في إطار هذا الواقع السوداوي المحترب فمن يتولى رأب هذه الشروخ التي ذكرت ؟

وهنا يأتي دور الحشد الجمالي للتفاصيل الصغيرة ، من خلال القولبة والمفارقة والتأطير إلى جانب الإيقاع المموسق كالنبر والهمس والسكوت والقفلات 
وحتى القفلات التي ينتهي بها النص يجب ان تتجرد من الاستهلاك والمباشرة وإلا بدا النص ركيكا سطحيا ساذجا
لاتحكمه اي بنى حقيقة سوى الرص الفج الذي يقع في شركه الكثير من كتاب الومضة الشباب
كما يتوجب ان نضع في الحسبان موضوع التفريق بين الرص والاحتشاد في إطار قفلته ومتنه وهما يسيران جنبا إلى جنب لأداء وظيفتهما التكاملية في محيط الدهشة والإبهار، والاحتشاد في عرف نصوص مازن توفيق مطلب أساسي وليس مجرد مكمل للوازم النص بل هو أهم مافيه
لأن المتلقي دوما ينطبع بباله ومخياله القفلات والنهايات الاحترافية وهو يصغي إلى شاعر النص لاسيما في الفعاليات التي يكون فيها الشاعر مع نصه في مواجهة مع الجمهور ،وهنا يأتي ايضا دور مسرحة النص الفعلي والتطبيقي غير الذي ذكرته سلفا ، وهو الأداء المترجم على نحو صوتي إيمائي حيث يستدعي الشاعر  مقدرته على التقمص من خلال (البانتو ميم ) والإيحاء إلى جانب النبر والهمس في ثنايا المتن وكذا المطالع والقفلات،

ولعل أبرز من برع في هذا الجانب من الشعراء الكبار  الشاعر جمال الرموش
ومن خلال ومضات توفيق لاينضوي مصطلح الاحتشاد تحت كم هائل من تفريخ اللغة وتداعي المصطلحات ولكنه يكمن في مفارقات يحدثها الشاعر في طبخته وتطويعه للغة
في خلطته السحرية اتي تنتمي
إلى الحساسية الجديدة والتي واكبها  قلة من شعراء الجيل السابق لجيل توفيق من خلال تضمينها أجناس أدبية متقاربة كالهايكو والنبذة والشذرة والأمثولة والومضة 
وبطبيعة الحال تكمن المفارقة والاحتشاد في ومضات توفيق ليس من خلال التلاعب بالمصطلح وإعادة تدويره فحسب ،لكن من خلال ربط الحسي بالمعنوي الشاعري بغير الشاعري وتذويبهما لينصهرا في بوتقة الخيال المغاير التي تفضي بهما إلى قالبه المنشود الومضة/ القصيدة حتى لا تكاد تدرك من منهما يمنح الآخر شاعرية وأنسنة وحيوية وبريقه الوامض
يضع دوما توفيق كائناته الشعرية كالبحر والغزاة والوطن والمنفى  والمجرة والفضاء والنشوة والشهوة والصخر والتراب والعويل والعواء والدمار والخراب ، والموت والحياة ..إلخ.. يضعها وجها لوجه في احتشاد التفاصيل ثم يبني مفارقاته عليها كما يضعها في مهب أسئلة القلق والغموض إنه يسائلها يستنطقها يتلمسها يلهمها لتلهمه ،وهو لا يتعامل معها على انها مصطلحات يرتب فوضها في إطار الشاعرية والموسيقى والإيقاع والإبهار وحسب ،لا بل يشتغل عليها ويؤجج اشتعالها حتى يرضى عن تكوينها النهائي ليطلقها بعد ذلك نصوصا وقصائد تسافر خارج اللغة
كما ان القلق الذي يساور المبدع وينتاب توفيق هو نفس القلق الذي يحاور من خلاله القصيدة في تشكلاتها كيف تكتمل وتتكامل ، ويواكبها إلى حين تخلقها الأخير لتكون كائنا صوتيها وملموسا امام الجمهور المتلقي في المحافل والفعاليات ،

وأجزم ان هذا الهاجس يراود شاعرنا لأني ألمس قلقه ورهابه كما ألمس أصابعي هذه الآن
واعني بقلقه هنا من خفوت ضوء القصيدة وذبول مستواها أمام الجمهور ،جمهور الفعاليات التي يقف فيها الشاعر وجها لوجه مع جمهوره ليروا قصيدته وومضته وهي تشع كما يروا روحه وهذا الاهم في اجتراح العمل الأدبي والإبداعي ، وقد أدى هذا القلق والرهاب إلى أن يحاور توفيق آخره الشخصي الشاعري وهو لايخفي خوفه من هاجس شيخوتها في نصه (نسيان مفتعل)
هل تناست القصيدة 
أن تقرأ لليل الغزاة 
ملامح خشوع مخاضها
عند اكتمال غفوة ترويضها 
في ظلال حدود اليقين؟
أم انها شاخت في اضطراب خلايا الموج.؟

من خلال تعامل الشاعر مع هذا النص وهو يتشكل في اكتمالاته ليبرز التناول الحسي للمعنوي والعكس حيث يكمن هذا التناول أو التعامل للومضة الآنفة الذكر في قلق الشاعر مع هذا الكائن الحي المحتشد بجمالياته ، فمن خلال العنوان (نسيان مفتعل ) تبرز لنا صفة الكائن الحي وهي النسيان أو النساوة التي منحها الشاعر لقصيدته / كائنه
فيقول : (هل تناست القصيدة أن تقرأ ) ،والقراءة هنا من هوايات الكائن البشري ثم يختط توفيق مسارا يتوازى مع أنسنة القصيدة ليؤنسن الليل أيضا حين يقول: (أن تقرأ لليل الغزاة) فيغدوا الليل كائنا آخر منصت لهذه القراءة تسري عليه أنسنة توفيق لينضم إلى قطيع كائنات الشعرية المتخيلة كما ان الغزاة الذي يرقبون هذه القراءة التي تجترحها القصيدة عبر الليل ماهم إلا النقاد أو الجمهور المتربص لثغرة ما في جسد القصيدة وهذا تأكيد جلي على قلق الشاعر عبر تساؤلاته وهواجسه كيف ستتوج قصيدته أمام الملأ - هل كما يتخيلها ويرضاها ان تكون؟
وهذا تأكيد ايضا على ان شاعرية الإلقاء ومسرحته للقصيدة فعليا وأمام الجمهور يعد نصف الملامح الأساسية في اكتمال  جودة القصيدة حضورا في مدارج الكمال ،ثم يتطرق شاعرنا في ذات الومضة إلى مصطلحات شديدة الحساسية تتكامل لتؤلف توجهات الكائن وتبني رغباته على نحو خاص كالملامح ،والخشوع،والمخاض،والغفوة،والترويض،والشيخوخة،
فيما يمنحه كأنه صفات معنوية كالشك الذي يتراوح فيما يسمى بالمنطقة الرمادية في ظلال حدود اليقين أضف كذلك إلى انه يؤنسن الموج من خلال منحه خلايا مضطربةوهذا مايذكي حيوية الصورة ،صورة الأنسنة
المتمثلة ڤي الاضطراب فتمنحها حركة فاعلة لترسخ في ذهنية القارئ ولاتمحى إنه تناسل التفاصيل الصغيرة التي تمتح حضورا وامضا بين ثنايا القصيدة
لتتكلس في ذهنية المتلقي، ولوأن الشاعر هنا وضع صورة اضطراب الموج بطريقة تقليدية عابرة في قفلة ومضته لما تكللت بنهاية إيقاعية حية مبتكرة لأن الاضطراب صفة الموج وهذا أمر بديهي ومسلم به
لكن الخلايا المضطربة التي دسها شاعرنا بملقط الكناية وهو يشرّح جسد ومضته بمشرط جراح خبير أثنا عمليته الإبداعية منحتها حياة موازية
في ذاكرة المتلقي ليعمل عقله
ووجدانه ، وهكذا تغدو القفلة مغايرة وغير تقليدية، وهي تختتم سلسلة متناسلة من الأنسنات عبر الصور المحتشدة الوامضة التي ساقها الشاعر عبر سياق قصيدته إلى وصل إلى قفلته المرجوة
ويعمد بعض النقاد إلى تصنيف الشعراء والكتاب بحسب القضايا التي تنطوي عليها قصائدهم ونصونصم ،ولعل أغلبها جلية للعيان فيصنف الشاعر بحسبها

كما صنفوا نزار شاعرا للمرأة ودرويش شاعر القضية الفلسطينية و(س) من الشعراء شاعر الوطن ،وآخر شاعر الغربة والترحال وغيرهم ممن تم تأطيرهم ضمن قوالب معينة رغم تناولهم الواضح لقضايا أخرى برزت في قصائدهم بشكل جلي
لذا أنا لست مع هذا التأطير أو القولبة الذي يحبس الشاعر او الكاتب في نسق معين ليصرف حس المتلقي ووعيه عن جماليات قضاياه الأخرى التي لاتقل جمالا عن القضية/ الإطار الذي وضع خلاله .
لكن هذه المقاربات السطحية لاتنم عن وعي الناقد بما يستبطنه النص ولكنها تبرز سطحيته، والعكس صحيح هناك الكثير من النقاد يستجلون القضايا والثوابت والتفاصيل الصغيرة التي تنم عن تراكمات تتشكل منها ملامح الشاعر ووجهته، ومن هنا تكمن فاعلية التفاصيل الصغيرة لتحدد التوجه، والإنتماء، والطموح، وهي خصيصة  يتمتع بها شاعرنا وعندما نتحدث عن الاحتشاد وبالذات احتشاد الصور الوامضة            
إلى جانب تفاصيلها الصغيرة  لا نعني بتاتا بهذا الاحتشاد الحشو المبتذل الذي يغطي أو يطغى على المساحة بلا دور أومعنى حقيقي، ولكننا نعني به إحداث مفارقات بين عدة مفردات بحيث تتناسل المعاني والتضادات لتتوازى البنى النصية 
مع خليط من الكنايات والاستعارات إلى جانب الغرابة  والدهشة والفنتازيا .


أنساق الأسئلة القلقة:

حين تنداح الأسئلة القلقة كخيول جامحة في برية مترامية الأطراف من خلال ومضات الشاعر مازن توفيق ،تتباين  مضامينها وانزياحات الصور المحتشدة في ثناياها لتنبثق عن مغايرة مائزة ترسم بصمات الشاعر وتنبئ عن شكه وعن روحه القلقة ،وهو مايبوح به شاعرنا في أحدى ومضاته التي يقول فيها:(في البدء كان ارتعاش الأسئلة)
وهو التناص المحاكي ل(في البدء كانت الكلمة) والكلمة سؤال واستنطاق، وإخبار ، وإعلام، وتنوير ، وفكر ، ومعرفة ، وشك وقلق معرفي، 
كما أن التباين في أنساق الأسئلة القلقة ومضامينها يتراوح من سؤال إلى آخر ،ومن نسق إلى آخر كنسق الإنتظار ، والحنين والتفاؤل، والقلق الوجودي كالشك واستقراء المصير المنتظر او التنبئ به وهو ما يبين لنا نظرة الشاعر إلى الحياة والوجود والأشياء عامة،
ومارصدناه هنا في هذه القراءة المتواضعة ماهو إلا غيض من فيض من أسئلة ذات أنساق مضمرة وأخرى جلية على امتداد ومضاته ، ففي ومضته التي تتكون من ( ١٣ ) كلمة تحت عنوان : " غواية الكائنات بتفاصيل الحرب"

يكتب مازن : (في البدء كان ارتعاش الأسئلة من نعاس نوافذ الضحايا، وغواية الكائنات ببارود الأزمنة.)
وهذا النسق المضمر ينطلق من قلق السؤال للمنتظر /لمن سيأتي أوقد لايأتي حين يصطاده نعاس الحرب/ الموت ،فيظل حبيبه أو حبيبته تنتظره من من نوافذ الضحايا ، وهو تعبير شديد الحساسية عن الحالة الإنسانية القلقة التي تتلبس المنتظر على هيئة سؤال قلق إذ يظل السؤال مرتعشا على شفاه الآخر المنتظر من (نافذة الضحايا) وهي الزاوية  والمجال الذي تمتد منه الرؤية والإحساس والحالة الشعورية تجاه المفقود فيسقط الشاعر الصورة من ذهنيته السيميائية من هذا المنطلق ،وعلى هذه الشاكلة التي يصور فيها شخصا منتظرا وقد دب القلق على ملامحه وكيانه يطل من نافذة وأمامه ساحة الحرب التي يفترشها الضحايا -الجرحى والقتلى - وهم يحصون من قبل قادتهم أو من ينوب عنهم في هذه المهمة ويظل المنتظر بكسر -ال ظ - يترقب النتيجة التي ستسفر عن هذه الإحصائية والأهم من ذلك هو سماع خبر عن مفقوده ليطفئ قلقه اللاهب.

كما ان (غواية الكائنات) وهي الحرب التي ترتهن عودة ضحاياها ببارود الأزمنة المتطاير والكثيف ليغطي المشهد فتصعب الرؤية الأفقية وهي كناية عن انقطاع السبل والأخبار عن عودة الآخر المنتظر - بفتح ال ظ -وهذا ما يضاعف من قلق الإنتظار ،ليقفز السؤال المرتعش من نسقه القلق وامضا 
- هل سيعود المفقود ،أم لا؟ 
كما أن الأزمنة هنا إشارة ضمنية على امتداد السؤال المعجون بقلق الخوف، والإنتظار،
واللاعودة.
وفي ومضته المعنونة "ضريح"  التي تتكون من ( ١٥ ) كلمة يقول : (هذا ضريحي يفيض حموضة،من ارتباك وحشة تمارين نحيب الخطايا،على أسئلة الهداية،والصراط المستقيم .)
تفيض شاعرية نسق هذا القلق الوجودي وهي تنطلق من حياة البرزخ و ما بعد الحياة الدنيا حيث يتساءل الشاعر وهو يصف لنا ضريحه (يفيض حموضة)
بحيث يتداخل هنا نسق الانتظار مع نسق القلق الوجودي جراء الاسئلة التي تضطرم في وجدانه فلا يلقى لها جواب 
فتنهال بكتيريا القلق على التراكمات ليفيض الضريح بها حموضة وهي كناية عن تراكم جثث الأسئلة الوجودية بالمقابل كذلك تسببت (وحشة تمارين نحيب الخطايا ) بالحموضة المفرطة التي رمز بها الشاعر إلى مرور الوقت والتآكل في جثث الأسئلة داخل هذا الضريح الفائض بها والتي هي جزء من جثة الشاعر المعنوية، ضميره /وجدانه/ عقله/كيانه 
ومن زاوية أخرى يجسد الشاعر هذه المغايرة من خلال لعب دورين مختلفين داخلي وخارجي
حين يصور لنا ضريحه وهو يفيض .. وهو داخله من دون أن يحدد مكانه فيه أو عدمه بحيث يراه من الخارج وهو ملمح سينمائي فنتازي بديع  بحيث يصور الداخلي الخارجي أو العكس ،كما يرصد الحسي المعنوي ، والمرئي اللا مرئي.

ومن خلال (ارتباك وحشة تمارين نحيب الخطايا على أسئلة الهداية،والصراط المستقيم )
يقفز السؤال كيف ترتبك الوحشة ؟ لكنها ليست وحشة فحسب! ،بل هي وحشة تمارين نحيب الخطايا ،وإذن فنحيب الخطايا تجسيد سيميائي ناتج عن الشعور بالذنب لكن التجسيد الأجمل هو المغايرة والأنسنة
التي منحها الشاعر للخطايا من خلال النحيب فبدت الخطايا/ الكائنات  تنتحب بدلا عن صاحب الضريح أو  المذنب ، كما ان النحيب هنا ينطلق من نسق وجودي ومصيري ،وكذا من مبدأ الثواب والعقاب والهداية والصراط المستقيم ،وكل مايتصل بحقيقة العالم الآخر من وجهة نظر الشاعر القلق.
أما في ومضته التي تتكون من (٢٣) كلمة وتخلو من العنوان أو تم عنونتها مع اخواتها ب"نصوص" يقول فيها :
(أنا القابع في جثث الأسئلة القلقة،امنح دهشتي الأولى رسوما هوائية لجسد الفجيعة، وهو يغازل موتي البديع وملامح انسيابية من عنوسة الوقت البكر.) يصف الشاعر فيها حالته التي  يمرن نفسه على التعايش والتأقلم مع جثث الأسئلة القلقة وقد نجح في إذكاء روح القلق بما يعني منحها الحياة فبرغم موت الأسئلة وتحولها إلى جثث إلا انه لم يفقد الأمل في الحصول على أجوبة تشفي غليل قلقه وشكه ،ورغم تحول الأسئلة إلى جثث إلا انه مازال بها بقية من حياة لذا منحها صفة القلق وهو بذلك يؤنسنها ليتعايش معها وإذا مازالت على قيد القلق فهي على قيد الحياة أيضا ،كما انه لايهمه موته ولايخشاه بقدر خشيته من خسارته في عدم وجود أجوبة تحيل قلقه إلى إيمان وشكه إلى يقين وينضوي حشد هذه الأسئلة الميتة/الحية تحت نسق مضمر وهو نسق (التضحية) بحيث سيمنح الشاعر هنا (دهشته رسوما هوائية لجسد الفجيعة وهو يغازل موته البديع  ملامح انسيابية من عنوسة الوقت)
بحيث سيضحي بحياته ووقته العانس والبكر ايضا حتى لا يضيع
دون حصوله على اجوبة تطفئ اسئلته المصيرية ولتمر دهشته (برسومها الهوائية )ولو كلفه ذلك حياته بتحقق موته البديع الذي غازله جسد الفجيعة.وتشي رمزية الوقت العانس البكر إلى المدة الذي انفقها من وقته وهو يبحث ويقلق وإذن فهو لم يخسر شيء بعد ولكنه لازال يناور ويضحي ليصل.

أما في ومضته المعنونة ب
" إيقاع صامت لوطن مستباح "وتتكون من( ٢٦ ) كلمة كتب فيها : ( لي هذا الوطن الذي يمتطي بذخا فاخرا، ومن حوله تغادر جميع الكائنات على غفلة من سرب أسئلتي المراوغة،
لعلي أصطفي وردة أغرس بعض ظفائرها في دمي.) والأنسنة دوما حاضرة في ومضات شاعرنا بمعنى انه يود منحها حياة وحيوية وهو نوع من التحريك للجامد حتى تسري عليه مغايرته بعيدا عن التناقضات الفجة والغير مسؤولة في منح ومضات الشاعر صورا بمغزى متفرد ومتجدد وهو ما يسعى إليه توفيق ، ومن خلال افتتاحه للنص بهذه الصورة المؤنسنة بياء الملكية (لي هذا الوطن الذي يمتطي بذخا فاخرا ) يجسد الشاعر وطنه الذي يربض على ثروات هائلة بينما تهجره جميع  الكائنات وتغادر لسوء المعيشة
بلص فاسد وحاكم ثري يتمتع بكل هذه الخيرات بينما يتضور شعبه جوعا ، وقد عطف الشاعر مغادرة الكائنات على غفلة من (أسئلته المراوغة )

وقد ضمن هذا النسق شيء من التفائل لعل وعسى! ويأتي هذا التفاؤل في خضم مواجهة إجماع الكائنات التي غلبها اليأس من عدم جدوى الحياة في هذا الوطن الذي يذهب خيره للآخرين أو في حضرة هذا الحاكم الفاسد بالمقابل تمثل وتلوح أسئلة مازن توفيق (المراوغة) كما وصفها مصبوغة بصيغة التمني في هذا الأفق الكالح الموبوء باليأس والفساد والعبث( لعلي أصطفي وردة أغرس ضفائرها في دمي )
كنوع من التفاؤل المتناسل والمتجدد لديه، ورغبة منه في البناء والتعمير والغرس والزراعة وإيجاد وطن بديل داخل وطنه إذا تطلب الأمر وهو دمه لعله يصطفي وردة يغرسها في دمه لينمو ويزهو ويتجدد وهنا بعد ديني ينطلق من مضمون الحديث الشريف (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) وهو تجسيد لمواجهة الخير والأمل والتفاؤل أمام النهاية الكبرى للكون في خضم القيامة ، فمابالك بنهاية صغيرة لرقعة أصغر على هذا الكوكب وهو الوطن .
ولازالت الأسئلة القلقة المضمخة بتفاصيلها الصغيرة المحتشدة ترصد الصور والأخيلة المازنية الحصرية ففي هذه الومضة التي تسكنها نوستالجيا قلقة وحنين  يتعافئ ببطئ يبرز الشاعر وهو ذاهب بأسلته الموجوعة إلى مرابع طفولته التي تعتلي عرش النقاهة ،حيث تتكون من ( ١٨ ) كلمة ،يقول فيها الشاعر:
(حين يتعالى صوت الضباب إلى ضوء صوتي،أغزو مساحات من وجع أسئلتي، وضمور طفولتي، لمجرد اعتلاءها لعرش النقاهة )
فطغيان الضباب وتعاليه بصوته إلى ضوء صوت الشاعر وهنا مغايرة بديعة (ضوء صوتي)
وكثافة الضباب هنا منذورة لتغطية الرؤية والتأمل لدى الشاعر وهو يستدعي حنينه إلى الطفولة بمضامينها المحتشدة في وجع أسئلته الخلاقة، ومن خلال أطار هذا الماضي الطفولي الذي تهربه أسئلته أليه وإن جاء هذا التأمل والهروب القلق على شاكلة غزو لهذا الماضي وتلك الذكريات التي يستدعيها الشاعر عبر نسق الحنين إلى زمن طفولته ،وهي في حالة نقاهة إذ تتعافئ تدريجيا فيهرب إليها توقا للخلاص والنجاه من حاضر ضبابي معتم يحاول خنق صوته شاعرنا كما يتفلت هذا الحاضر من قبضة مستقبل مجهول او هكذا يرصده الشاعر