آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-11:23ص

صفحات من تاريخ عدن


تاريخ مدينة المـعـلا للمؤرخ سلطان ناجي، 1976م

السبت - 25 يونيو 2022 - 12:35 م بتوقيت عدن

تاريخ مدينة المـعـلا للمؤرخ سلطان ناجي، 1976م

عدن(عدن الغد)خاص.

  لقد رأينا عند كلامنا عن ميناء عدن بأن المقصود في غالب الأحيان كان هو ميناء الخليج الأمامي في كريتر . و الواقع أنه حتى الآن لم توجد أدلة أو قرائن تاريخية عن تسمية المعلا تعود إلى أكثر من المائة و الخمسين عاماً الماضية. و أقدم إشارة عمومية إلى الميناء إشارة القائد البرتغالي الذي قام بغزو عدن عام 1513م. ففي مذكراته يشير إلى (الميناء الشمالي) الذي كان يقرب من (برزخ خور مكسر)، و إلى هذا البرزخ كان يحمل الماء من الداخل بواسطة قناة.

و في الطرف الغربي من المعلا (قرب جولة حجيف) يوجد مكان يُستخدم لإصلاح السفن أسمه (البرشه)، و لربما إن هذه التسمية مرتبطة بنوع من السفن العثمانية المذكورة في مخطوط (البرق اليماني في الفتح العثماني) و التي أستخدمت في بداية القرن السادس عشر لمطاردة السفن البرتغالية ثم فيما بعد لإحتلال عدن، فبجانب (الأغربة) كان هناك نوع من السفن أسمه (برشه). وهناك تخريج أحدث حول هذه التسمية و هي أن برشه كانت تحريفاً للفظة الأجنبية (برشين) بمعنى (بروسى نسبة إلى بروسيا الألمانية) و الدليل الذي يأتي به أصحاب هذا التخريج هو أن السفن البروسية كانت تصلح هناك بعد مجيء الانجليز.

  أما رأس حجيف و هو أخر مدينة المعلا من جهة الغرب فإن تسميتها معروفة لدينا على الأقل منذ 1837م ـ أي قبل الإحتلال بعامين ـ و ذلك أن الوثائق البريطانية و مذكرات هينس نفسه تشير إلى وجود مؤامرة من قبل سكان عدن لقتل هينس، و أن أحد جواسيسه حذره من الفخ و هو في سفينته قرب (رأس حجيف).

   و بعد الإحتلال نجد أن الخرائط و الوثائق و البريطانية تبدأ في ذكر قرية (المعلا) و (بندر المعلا). فقد أستمر ميناء الخليج الأمامي هو الميناء الرئيسي خلال العشر سنوات الأولى تقريباً من الإحتلال و لكن بسبب إمتلاء الميناء بالغرين نتيجة إهماله خلال المائة سنة السابقة تقريباً فلم يعد صالحاً لرسو السفن الكبيرة خاصة. كما أن تغييراً هاماً قد حدث بالنسبة لأحجام السفن عند الإحتلال، فقد أصبحت السفن بخارية تجارية بعد إكتشاف البخار من الفحم. و هكذا بدا الميناء يتحول تدريجياً إلى (التواهي) و أصبحت المعلا تكون طرفه الشمالي و أصبح ميناؤها يسمى بالميناء الخلفي، و كانت هناك أسباب أخرى ساعدت على نقل الميناء إلى التواهي و المعلا و هو إنتقال جزء من الحامية البريطانية إلى هناك و كذا مقر المقيم السياسي، هذا بالإضافة إلى أن ميناء كريتر كان صالحاً في بعض شهور الرياح الموسمية. 

و في 1847م أوصى (هينس) بإقامة جمرك فرعي في باب عدن و ذلك من أجل فرض العشور على البضائع التي تحملها السفن المحلية. و في عام 1855م قام بعض التجار من الهنود و العرب و بنوا (دكة المعلا) . و في عام 1862م تحول الجمرك إلى هناك، و بدأ قليل من البيوت الحجرية أو العشش يبنى قرب الدكة من أجل خزن البضائع أو للسكن. و في خارطة ملحقة بكتاب (هنتر) المنشور 1877م، نستطيع أن نجد أن المعلا كانت لا تزال في ذلك الحين تحتوي فقط على الدكة و مركز البوليس (مركز البريد القديم للمعلا فيما بعد). و تقع وراء المركز بعض البيوت الحجرية لأفراد قوة البوليس أو الأهالي المرتبطة أعمالهم بنشاط الميناء. 

و في الطرف الغربي من المعلا قرب حجيف كان مركز بوليس ثان و محاريق النورة. و بسبب أن معظم السكان قرب الدكة كانوا من الصومال فان المنطقة كانت تسمى (سومالي بره). و بين الدكة و باب عدن تظهر مقابر المسلمين و اليهود في ذلك الوقت قبل مائة عام من الآن. و كانت دكة المعلا قد وسعت كثيرا في 1869م. و بعد ذلك التاريخ لم يعد يوجد ميناء في مدينة كريتر، بل أصبح في التواهي و في المعلا بالنسبة للسفن المحلية التي تجوب سواحل أفريقيا و سواحل اليمن و الخليج.  و في عام 1881م أجري إحصاء لسكان المعلا و بيوتها فوجد أن (1000) شخص كانوا يعيشون في (357) من بيوت الحجر، و (2650) شخصاً كانوا يعيشون في عشش (كتشه) بلغ عددها (687) عشة، و الباقون كان معظمهم من عمال الفحم كانوا بلا مأوى بمعنى أن حوالي 60% من السكان كانوا في عشش و  15% بدون مسكن.

   و قد أصبحت منطقة حجيف مكاناً لخزن الفحم الحجري الذي تستخدمه المراكب و معظم العمال كانوا من المناطق الشمالية الذين فروا من ظلم الحكم التركي ثم الأمامي فيما بعد. و على كل حال فان الجزء الأكبر من عمال تفريغ الشحن في الدكة في حجيف، كانوا من جبال اليمن، كما كان معظم سكّان المعلا إلى وقت قريب هم من الصومال و ذلك بسبب التجارة الواسعة التي كانت قائمة بين عدن و الصومال في القرن الماضي. و عن تغلّب العنصر الصومالي في تلك الأيام يصف لنا (الريحاني) الوضع الإجتماعي الذي كان قائماً في ذلك الحين قبل حوالي خمسين سنة من الآن، فهو يصف كيف أن الصوماليين كانوا يسيرون جماعات في الشوارع و هم يلبسون الثياب البيضاء و كأنها ملابس شيوخ أثينا و في أفواههم المساوك (فرشاة) الأسنان من الأراك و رؤوسهم مرفوعة و كأنها رؤوس الطواويس. أما عصيهم فكانوا يسلّمونها كل صباح يوم أحد إلى مركز البوليس و لا يستردونها إلا في المساء و ذلك بسبب ميلهم إلى العراك و المشاغبة في أيام الإجازة.

   و بالنسبة لعمال الفحم فقد كانوا في مشاكل مستمرة مع أصحاب الشركات الأجنبية التي تستخدمهم. و كانت المشكلة الأولى هي مشكلة إسكانهم في بيوت أو عشش لأن أصحاب الشركات لم يريدوا إلا أن يبقى أولئك البؤساء مفترشين العراء و جبال حجيف و المعلا، و كذلك فلأن المراكب الكبيرة كانت لا تستطيع الدخول إلى ميناء التواهي قبل تعميقه فقد كانت ترسو قرب رأس مربط و كانت تعطى لهم (علاوة خطر). و من الأمور التي لا تزال مجهولة حتى الآن هو أن أولئك العمال كانوا بالفعل يقومون بإضرابات ضد الشركات المستغلة في ذلك التاريخ المبكر في نهاية القرن الماضي. إن الإضرابات العمالية تعود بجذورها إذن إلى ذلك الوقت و ليس إلى منتصف الخمسينات من هذا القرن كما هو الإعتقاد السائد.

   و منذ بداية هذا القرن تحوّل الجزء الأعظم من تجارة الفحم الحجري إلى جزيرة (ميّون) و لهذا قل العمل في هذه الناحية إلا أنه عاد من جديد إلى عدن بعد الثلاثينات تقريباً، و ذلك لسببين هما أولاً: إكتشاف شركات البواخر أن شركة ميّون للفحم كانت تلجأ إلى الغش في معاملاتها معها و ذلك بأنها كانت تترك أحجار الفحم تبتل بماء البحر حتى يزيد وزنها، و ثانياً: حدوث تطوّر جديد في طريقة تسيير السفن نتيجة بداية إستخدام النفط بدلاً من الفحم. ففي الفترة بين 1928 ـ 1931 م بُنيت أربعة توانك (مستودعات) للنفط في الطرف الغربي من المعلا. و لهذا وجدت الحاجة لنوع جديد من العمال بجانب عمال الفحم الذين زاد عددهم أيضا بسبب تحويل مخازن الفحم كلها من (ميّون) إلى عدن. كذلك و بسبب هذا الكساد المفاجئ الذي حدث لميّون فقد نُقل معظم سكان الجزيرة إلى عدن، و بُنيت لهم شوارع خاصة بالمعلا عُرفت بحوافي ميّون.

   و في عام 1932م بُني أيضاً مصنع للصابون في المعلا و كان ينتج يومياً (50) صندوقاً من الصابون، و كل صندوق يحتوي على (200) قطعة. ثم فتح أيضا مصنع للألمنيوم. و قد كانت الصناعة توظف حوالي مائتي شخص في ثلاثة مصانع و بعض المحلات الصغيرة. و كانت هناك تجارة ناشئة يقوم بها اليهود و اليونان و هي صُنع السجائر المحلية من التبغ المصري. و بجانب ذلك الصناعة التقليدية لتصفية حبوب البن و اللبان. و هي كلها كانت في منطقة المعلا و كانت تقوم بها الصوماليات. و في الأخير أشتهرت المعلا بصناعة السفن، و هي صناعة قديمة عرفتها عدن منذ آلاف السنين و كان يقوم بهذه الصناعة (الحضارم). و تشبه السفن الشراعية التي كانت تبنى في المعلا سفن الفينيقيين، و كان خشب (التيك) المستخدم لهذه السفن يستورد من (ملبار) في الهند، أما بقية الأخشاب العادية و المسامير فهي من المنتوجات المحلية، و كانت هذه الصناعة تنتج حوالي سبع سفن في العام، و بعد الإنتهاء من صنع السفينة و طلائها ببعض زيوت السمك تُدشن في البحر و يُذبح لها رأس من الكباش أو الماعز ليأكُله بنّاؤوها و ذلك حتى لا تكون السفينة السبب في قتل ركابها إذا ما تعرضت لعواصف و مخاطر البحار في المستقبل، و يشرف دائماً على بناء السفينة (الناخوذة). و الجميع كانوا يغنون أثناء العمل. و لأن المعلا كانت هي المرسى الرئيسي لمثل هذه السفن الشراعية فإن مجموع ما يرسو منها في الميناء كان يصل إلى حوالي (1400) سفينة في العام.

   و في أوائل الخمسينات قامت هيئة ميناء عدن بإستصلاح الساحل البحري للمعلا و ذلك من أجل توسيع أحواض السفن و مستودعات البضائع هذا من جهة و من جهة أخرى من أجل تشجيع حركة البناء لإستيعاب عائلات أفراد القوات البريطانية بعد توسيع قاعدة عدن و جعلها المركز الرئيسي لقيادة الشرق الأوسط. و لم تأت نهاية الخمسينات إلا و قد شُيّدت أكبر العمارات في عدن على طول المعلا مسافة تزيد عن الميل، و قد أُجّرت آلاف الشقق في تلك العمارات إلى الضباط البريطانيين.  و في نفس الوقت و نتيجة لهذا النشاط العمراني الهائل توسعت المعلا في إتجاه سلسلة الجبال من الخلف و بُنيت الآلاف من العشش في هذه الفترة هذا بالإضافة إلى مدينة القلوعة (الروضة) التي بنيت في منتصف الخمسينات و سكن معظم بيوتها العمال و صغار الموظفين، ويمكننا القول بأن سكان المعلا يعود إلى هذه الفترة بعد الخمسينات. و نستطيع أن نلمس ذلك من مقارنة عدد السكان فيها في عامي 1955م و 1973م. و هما العامان اللذان أُجري فيهما التعداد السكاني. ففي إحصاء عام 1955م نجد أن سكان المعلا كانوا (20868) نسمة، بينما زاد إلى (47044) نسمة في الإحصاء الأخير الذي تم عام 1973م. و خلال حرب التحرير نجد أن أعنف المعارك بين الإنجليز و الوطنيين كان مسرحها منطقتي المعلا و الشيخ عثمان. فقد أصبح الإنجليز يسمّون جولة السيلة بالشيخ عثمان (جولة القنابل) و الشارع الرئيسي في المعلا (ميل الموت).