آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-05:27م

أدب وثقافة


رصاص راجع (قصة )

الإثنين - 16 مايو 2022 - 04:35 م بتوقيت عدن

رصاص راجع (قصة )

كتب/ احمد الجعشاني

كنت افكر في نفسي ، وأنا ادلف ببطن قدمي ، ببطء شديد ، خارجا من بيتي ، متمهلا في المشي ، او بالأحرى كنت مترددا ، ببنما الشمس لازالت مشرقة في ذلك النهار .  وكنت أشعر بالضيق والارتياب ، وانأ اسحب رجلي . في اصيل صيفي حار ، لم أكن اتصور نفسي ، ان اذهب الى حفلات زواج في داخل الحارة ،  فأنا لست من النوع الذي يستو يهيه ، هذا النوع من الحفلات ، خاصة حين يكون الحفل امام السكن في الحارة ، والجلوس داخل المخدرة ، سرداق مكون من الخشب . ينصب امام البيت ، ويغطى سقفها بطرابيل وسخة وقذرة ، وقطع  من قماش باليه مخزقة ، تستطيع رؤية  الضوء السارب من خلالها . فتجد المكان . مثل رقعة الشطرنج ، موزعة بقع سوداء وبيضاء . فوق الارض المفروشة.  بسجاجيد قديمة معفنة ، مليئة بالتراب والطين ، و متكئ مهترئة وضعت للجلوس عليها ، مع مسرح صغير في المقدمة ، يجلس عليه العريس والمطرب الذي سيحي الحفل ، لم يكن الموضوع فيه استعلاء او له علاقة بالتواضع ، ولكن لم اجد الراحة ، في الجلوس والاستمتاع في الحفل ، وهذا لا يعني اني لا اود الحفلات الزواج ، بل  احيانا اذهب الى حفلات الزواج ، الذي تقام في قاعات الفنادق ، او في قاعات الأفراح المتخصصة ، مثل قصور الأفراح ، يكون المكان فيها ملائم ، واكثر أريحية ، والقاعة مكيفه وباردها ، وفيه نوع من الالتزام والضوابط ، عكس الحارة ، تكون مليئة بالصخب والرطوبة وجو حار ، ويبدأ العرق يتصبب منك من كل أنحاء جسمك ، فتزيل رائحة العطر الذي وضعته ، فتفوح منه . حموضة لزجة . لا تستطيع  احتماله من رائحة العرق . وهذا ما يحدث عادتا ، في مثل  هذه الاماكن في وسط الحارات القديمة ، واحيانا كثيرة  تحصل مثل الهوشة ، او الانفعالات الزائدة عن المألوف ، رقص عشوائي غريب وعجيب واشكال . وتقليعات مبتكر جديدة . قد لا تفهمها  ، من جيل الشباب الان ، الا اني واصلت السير ، ولم يكن لي عذر من التراجع او الانسحاب ، وخاصة ،  بعد ان وعدت احمد بالحضور ، حين فاجئني امس بعد صلاة المغرب ، وجلس بجانبي ، وسلم علي ، وتحدث معي ، وطلب مني الحضور ، والمشاركة في مراسيم زواجه ، صحيح  اعرف احمد منذ مدة طويلة ، حين سكن عندنا في الحارة ، الا ان معرفتي به بسيطة و عاديه ، ولم نكن اصحاب ، الا انه كان يعجبني سلوكه وادبه ، فهو ودود وشاب مجتهد ، وملتزم ،  اكمل دراسته الجامعية ، ويعمل موظف في الحكومة ، الا انه اكثر ما لفت نظري اليه ، و فاجئني به ، هو انضمامه الى المقاومة الشعبية ، وحمله للسلاح  اثناء الحرب على عدن ٢٠١٥م .. وحين انتهت الحرب . عاد ورجع الى سكنه و عمله وظيفته . بعد تحرير عدن ، كبر في نظري . فكان قدوة ، و مثال الشباب  المنضبط السوي ، فأعجبني كثيرا ، عكس بعض الشباب ، الذي وجد في المقاومة ، سبيل وهدف ، ليس لها علاقة بالسلوك والانضباط الامني ، فالكثير منهم انظم الى معسكرات ومليشيات امنيه ، تجوب في احياء مدينة عدن ، ومنهم من استغل الفرصة ، فتكسبوا .. وجمعوا ثروة ضخمه .. من الجبايات ، والبلطجة ، في الطرقات و الأسواق ، والاستيلاء على اراضي الدولة وبيعها ، دون اي حق او سند قانوني . اخلوا بجميع النظم والقوانين السائدة . فصاروا  امراء حرب .. يصولون  ويجولون . مثل الغربان في عدن  نعيق مزعج في النهار . وأذى يوسخ المدينة ليلا .  وكثيرا ما يحدثون الفوضى ، و المشاكل ، مع المواطنين ، الا ان العقاب لم يكن قوي ورادع من السلطة ، حتى اصبحوا مثل صقالبة الاندلس .. ومماليك السلطان في  مصر .. ما علينا 

عندما اقتربت ، من مكان الحفل ، اخرجت من جيبي  المظروف الصغير ، وضعت النقود ، في مثل هذه المناسبات المشاركة ، بالنقط او الرفد بالمال واجب اجتماعي . لمساعدة العريس ، عادة قديمة ، الا انها لا زالت موجودة عند البعض ، فوجدت انها فرصة للمساعدة ، و تعبير للمودة بيننا ، فكان المكان ممتلئ ومزدحم ، الا اني وجدت لي مكان مناسب لجلوس فيه ، بعد ان سلمت على احمد ، كان جالس على كرسي مريح فوق المسرح ، وعليه سترة بيضاء وشال اسود . كان لباس جميل وأنيق. يلفت النظر اليه ، واجراز الفل تتدلى فوق صدره ، كان مبتسما حين قام ورحب بي ، وجاملني وشكرني على الحضور ، و على مقربة منه . على متكأ صغير فوق المسرح ،  يجلس المطرب الذي كان  يغني ، اغنية يارفيق القمر ، وهي من التراث ، وكثيرا ما تكون ، هذه الاغاني التراثية ، هي مستهل الحفل في مثل هذه المناسبات ، بينما جلس بجانبي ، واحد من الجيران في الحارة ، وهو مدرس متقاعد ، الا انه كان شخصيه اجتماعيه ، ونشط في الاعمال الاجتماعية والخيرية ، وله حضور دائم  في كل المناسبات ، كانت له عينان جاحظتان ، تتفحص الوجوه ، يلقي بنظرة فاحصة ، يتجول بعينيه ، من نظارة سميكة تخفي الكثير من ملامح وجه ، وهي تطوف حول المكان ، وكأنه يبحث عن شيء او يترقب شيء ، ثم يعود لحديث معي ، فكنت لا اسمع لحديثه كثيرا  ، من ضجيج الاصوات ، وصوت الميكرفون العالي ، كان يمتلك الكثير من القصص والخبايا . ويعرف الكثير عن اهل الحارة ، لكني لم أكن.  استوعب ما كان يقول عدا ، ان احمد كان من تلامذته . 

اكتسحت موجة غبار كثيفه ، كأنها عاصفة من التراب وجهت الينا ، عندما وقفت عربات اطقم ، امام المخدرة ، تلاها طلقات رصاص ضجت مسامعنا ، فركض الشباب من العربات ، في طابور طويل . إلى فوق المسرح يهنئون احمد ، واستمرو في اطلاق النار ، من اسلحتهم ، فتخالطت اصوات الرصاص مع الموسيقى والرقص ، وهم يحيون زميلهم احمد العريس ، كانوا رفقاء احمد في المقاومة ، تجرأ البقية الجالسة . في المخدرة اخرجوا مسدساتهم ، وردوا التحية . فعبق المكان من ريح البارود والدخان ، لم يكن احد يجرؤ على الكلام او وقفه ، لمحت الجار الجالس بجانبي ، يتحرك كالملسوع من مكانه ، فلحظة الخوف في عينيه ، وذلك ليس غريب او عجيب ، في مكان يطلق الرصاص فيه ، اكثر ما كان يطلق اثناء  الحرب في عدن ، ما اكثر الرصاص الذي يذهب في الهواء . لو جمع لحررت صنعاء . من قبضة الحوثي ، كان الأمر مخيف . ومستفزا لمشاعر الاخرين ، احيانا يجد الخوف له مكان في داخلنا ، من غير وعي او ادراك ، بينما الخوف هو نوع من الحذر ، مثل جهاز الترويمتر يرتفع وينخفض . حسب درجة الخطر القادم ، فهناك من يختل توازنه ، ويفقد السيطرة على اعصابه ، فتظهر علامات الخوف والارتباك عليه ..! وهناك من يتمالك نفسه ، كنت ايضا شعرت بالخوف ، كان الرصاص يلعلع بكثافة ، من فوهة الرشاشات فوق المسرح ، الا اني كنت مسيطرا على اعصابي ، الا ان الخوف كان موجود داخلي . كانوا يطلقون النار بتلذذ واستخفاف ، وكنت قلق من وجودي في المكان ، قررت حينها  الانسحاب والمغادرة ، فالأمر لا يسلم ، من رصاصة طائشة ، فالمكان اصبح فوضة بعد مجيء شباب المقاومة ، اصدقاء احمد ، فقلت في نفسيي، هؤلاء هم من كان يجب ان نثق فيهم لحمايتنا ، قال زميلي الجالس بجانبي ، بعد ان  ربط جأشه ، وتمالك نفسه . من الأفضل أن اذهب ، فوجدتها فرصة ، قلت وانأ معك ، وقفنا معا وهممنا بالمغادرة ، وفي اللحظة التي تحركنا فيها ، سمعنا ، صوت كبير جدا ، يخترق الضجيج والاصوات . و ينادى ويستغيث ، بعدها توقف صوت الفنان من الميكرفون وتوقف الضجيج  ، وتوقف اطلاق  النار من بنادق الشباب ، وتجمهر عدد من الجالسين فوق المسرح ، كنت اعرف معنى هذا ، وحسست بالوخزة في جسمي . كأنه سلك كهرباء ضرب جسمي ، وارتفعت ضربات القلب ، كان احدهم يقول رصاص راجع ، اصاب العريس . التفت الى مكان الصوت ، لم أشأ العودة الى الداخل ، بينما توجه الكثير من الاشخاص الى الداخل ، انفجرت صيحات النساء . من الخلف ، وهناك من شقن طريقهن الى الداخل . وسط جمهرة الناس ، بينما كانتا امرأتان اكثرهم  عويلا ، اظنهما امه واخته ، كانتا كل واحدة منهما . تحاول انتزاعه من ايدي الشباب . كان الموقف صعبا.  ولا احد قد يتصور ذلك ، اخرجوا احمد بسرعة محمولا ، الى احدى العربات الواقفة ، مروا من امامي ، كان مضرعا بالدماء ، ذهبت العربات واختفى المسلحون ، أدرت ضهري للمكان ، وغادرت المكان بخطئ سريعة ، دون التفت ورائي ، وقلت في نفسي . فقدنا احمد برصاص راجع ، في يوم عرسه ، في اليوم الذي سيبدأ فيها . حياة جديدة . اذا ما فائدة السلاح ، الذي بأيدي المقاومة ، أن لم يكن لا جل أمن الناس ، اننا نجر ارجلنا الى حافة الموت ، كمن يشتهي الحزن في لحظات الفرح  ..