أرم حجراً في بحيرة، ولن يكون تأثيره مرئيا فقط، بل سيكون تأثيره لفترة أطول بكثير. إذ سيعكر الحجر صفو المياه الراكدة، وسيشكل دائرة في البقعة التي سقط فيها وبلمح البصر تتسع تلك الدائرة وتتشكل دائرة إثر دائرة وسرعان ما تتوسع المويجات التي أحدثها سقوط الحجر حتى تظهر على سطح الماء الذي يشبه المرآة ولن تتوقف هذه الدائرة وتأتي شيء إﻻ عندما تبلغ الدوائر الشاطئ.
إذا ألقيت حجراً في النهر سيعتبرها النهر مجرد حركة أخرى من الفوضى في مجراه الصاخب المضطرب أي ﻻ شيء غير عادي.
مقتبس من استه لآل في رواية جلال الدين الرومي (قواعد العشق اﻷربعون) ترجمة خالد الجبيلي ص 7.
هكذا نحن نحاول رمي حجر في بركة لهجة الراكدة منذ آﻻف السنين لمحاولة إنعاش الذاكرة الشعبية بما حوته تلك اللهجة العظيمة من مفردات عربية أصيلة أصالة لغة الضاد والقرآن الكريم.
وموضوع اليوم هو:
أتقنعس فلان أو فلان متقنعس معه هاجس.
كم سمعناها من أهلنا وكنا نفهمها على أنها الجلوس مع اشتداد الظهر أو اﻻنتباه أو شيء من هذا القبيل وعلى العموم هذه الكلمات اتقنعس أو الهاجس ليست ترهات أوكلام بدوي ليس له معنى آبدا بل أنه من صلب لغة العرب فكلمة تقنعس والقنعاس والقناعيس لها عدة معاني سنجدها في المعاجم العربية وفي الشعر العربي على النحو التالي:
قَنَاعِسُ قَنَاعِيسُ
تعريف و معنى قناعس في قاموس المعجم الوسيط ،اللغة العربية المعاصر ،الرائد ،لسان العرب ،القاموس المحيط. قاموس عربي عربي قنعس
"ناقة قِنْعاسٌ: طويلة عظيمة سَنِمَةٌ، وكذلك الجمل؛ وقيل: القِنْعاس الجمل الضخم العظيم، وهو من صفات الذُّكور عند أَبي عبيد. ورجل قِنْعاس: شديد مَنيع؛
قال جرير: وابنُ اللَّبون إِذا ما لُزَّ في قَرَنٍ،
لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيس.. ورجل قُناعِس،
بالضمِّ، أَي عظيم الخلْق، والجمع القَناعِس، بالفتح.
المعجم: لسان العربُ ـ قِنْعاسُ من الإِبِلِ: العظيمُ، والرجلُ الشديدُ المَنيعُ، ج: قَناعيسُ.
ـ قُناعسُ: العظيمُ الخَلْقِ، ج: القُناعِسُ القَناعِسُ.
ـ قَنْعَسَةُ: شدَّةُ العنقِ في قِصَرِها، كالأحْدَب.
إذن القنعسة شدة العنق كما نفهمه نحن في لهجة دثينة لكن دعونا نراها في أمثلة من الشعر الفصيح:
جرتْ لأخي كلبٍ غداة َ تأبستْ عُبَيْدٌ بِردّ البُزْلِ مِنْها القَناعِسِ جريريَشُوقُكَ تَوخِيدُ الجِمَالِ القَنَاعِسِ بأمثالِ غِزْلاَن الصّرِيمِ الكوانِسِ.
البحتري َالا رُبَّ قولٍ قلتَهُ يا ابن طاهرٍ أصاختْ له بعد الهدير قَناعسه
ابن الرومي
مَهيب إذا ما كان في القوم أمْسكتْ.
عن الهدر والخطر القُروم القَناعس .
ابن الرومي
سَأَحْمِلُ أَعْباءَ الخُطوبِ ، فَطالَما.
تَماشَتْ على الأينِ الجِمالُ القَناعِسُ.
الأبيوردي
ورُمحي إذا ما اهتزَّ يَوْمَ كريهة.
تَخرُّ لهُ كلُّ الأُسودِ القناعِس.
ِعنترة بن شداد.
واﻵن دعونا نرى مفردة الهاجس في المعاجم والشعر العربي الفصيح:
في المعجم العربي:
هَجَسَ الأمرُ في صدره ـِ هَجْساً: خطر بباله. وـ فلاناً عن الأمر: ردَّه.( هَاجَسَه ): سارَّه.( تَهَاجَسَا ): تسارّا.( المُتَهَجِّس ): يقال: خبز متهجِّس: فطير لم يختمر عجينه.( المَهْجُوس ): يقال: وقعوا في مهجوس من الأمر: في ارتباك واختلاط وعماء منه.( الهَاجِس ): الخاطر. ( ج ) هَواجِس.( الهَجْس ): الصوت الخفيّ يُسمَع ولا يُفهَم. وـ كلّ ما يدور في النَّفس من الأحاديث والأفكار.( الهَجِيسَة ): الطَّريّ
وفي الشعر الفصيح نورد أمثلة عن الهجس أو الهاجس:
لا تُبْدِلنِّي بما اقتنيتُ من
الآمال هَجَس المخاوف الهُجُس
ابن الرومي
أجاوزُ بيتاً بعد بيتٍ وأمتطي
هواجسَ فكرٍ بعدهُنَّ هواجس.
ابن الرومي
ولي هاجس طَلق على كل لذةٍ
وما هاجسي وقفاً على الأجر والحمد.
الخُبز أَرزي
وَعْدٌ لهُ هاجِسٌ في القلْبِ قد بَرِمَتْ .
أَحْشاءُ صَدْري بِهِ مِنْ طُولِ ما هَجسا
ابن عبد ربه
خرَجتُ إلى القَرْمِ الكمِّي مُبادراً
وقد هجستْ في القلب مني هواجسي
عنترة بن شداد
واﻵن دعونا نرى نفس المفردات في قاموس شعراء دثينة:
في قصيدة طويلة جداً للشاعر بادع علة ناصر عبدربه مكرش في عام 1970 بمناسبة ذكرى ثورة 14 اكتوبر في الجنوب ضد المستعمر البريطاني قال:
نا هاجسي سباح في بحر الهوى .
ما حد سبح مثله من المتهجسين.
في لوله والثانية والثالثة .
والرابعة والخامسة ﻻ سادسين.
ويقصد ان هاجسة طغى على محافظات الجنوب التي كانت تحمل أرقام منذ بعد اﻻستقﻻل من بريطانيا.
ديوان بادع علة ص 63.
وفي مساجلة للشاعر نفسه مع عشال الحنشي رحمهم الله جميعاً قال:
بو حمحمة عجوب قلبي بالعجاب.
عجوب قلبي أيش قال المهتجس وش جاب.
كلمة قالها لكن ماشي علم جاب.
باقولها من صدق ﻻ مازح وﻻ كذاب.
ديوان بادع علة ص 202.
وفي قصيدة جميلة للشاعر علي الخضر مبارك جميع بن يحيى الملقب بعلي رامي في قصيدة جميلة في مطلع اﻻربعينات من القرن الماضي بقرية قرن اهل عشال قال في آخرها:
هذا قصيدي دي خرج من هاجسي.
باقولها بين الطواهش والنمار.
ياسعد من حصل نمر بايوكله.
وﻻ يعزه روس لشعاب الوعار.
ديوان الشاعر علي رامي ص15.
وفي مساجلة بين شعراء عديدين منهم أحمد عمر مكرش قال الشاعر المخضرم صالح احمد العرماني أطال الله عمره وهو في تقديري الشخصي واحد من أكثر شعراء دثينة وأبين بشكل عام بلاغة واطلاع وعمق في وصف الوضع العام بكلمات مختصرة لكنها دقيقة جداً وتوصيف ﻻ شبيه له:
الليلة دنا يالليل والهاجس حوى.
واحمد عمر جتنا نقاباته وعماله.
شكى الدكتور والدكتور يشكي من نوى.
وﻻ قد الدكتور تاعب يعتبر عالة.
قد الدكتور في اﻻنعاش جالس وانزوى.
وصاحوا اﻷمراض قالوا مادري ماله.
إلى آخر القصيدة أنظر ديوان احمد عمر مكرش طبعة قديمة ص 360.
الشاعر امدعوسي في أرض باكازم عام 1987 في محف أي مساجلة مباشرة يقول:
يا راسي الليلة تذكر هاجسك
الأرض زينة مقبلة فيها النجوم.
محمي طرقها والطوارف محمية .
بالجيش دي خذها بدي فوق الطقوم.
أحمد عمر مكرش في ص 233 من طبعة ديوانه القديم في قصيده جميلة يقول في مطلعها:
سلامي من صميم الواجعة
من راس شاعر هاجسه يتنهجر.
يفقع كما الصاروخ في حرب العند.
دي يقذفينه طائرات الهنجر.
وكثير من شعراء دثينة والمناطق المجاورة من مكيراس إلى شبوة يتغنوا بالهاجس وهذا هو معنى الهاجس في شعر دثينة وحتى القنعسة وردت على لسان شاعر مكيراس الشهير حين قال :
قال ابن عبدالنبي سالم كيل امحريوه تقع قاسي.
حطت سلبها على امسلقة حقيب ذاك امتقنعاسي.
ويقصد كيف استسلمت العروسة للرجل بعد أن كانت مشدودة العنق أي متقنعسة.
أكتفي بهذا وشكراً متابعي الكرام.
