آخر تحديث :الخميس-28 مارس 2024-08:00م

أدب وثقافة


رواية "أحببتها"

الجمعة - 11 يونيو 2021 - 04:12 ص بتوقيت عدن

رواية "أحببتها"

عدن (عدن الغد) موفق السلمي - الحلقة الثانية:

أظلم الليل وكنت مع مرام في مجلس النساء ، فجأة بعد صلاة العشاء ترتج بيتنا بأصوات رجال مرددين "يا رب صلِّ على من حلّ بالحرم  محمد المصطفى المخصوص بالكرم"، أقفز من حضن أمي  ، فتقفر  مرام مثلي ، ندخل مجلسنا المكتظ بأبناء القرية  ، نتسابق على الجلوس بجوار جدي نصّار ، ولم نجد متسعا ، فأمامه قنائم القات الميتمي ، جلست مرام بحضن والدها  ، وذهبت مثلها لأجلس بحضن أبي فأشار إليّ أن أرجعَ عند أمي ، كدت أن أصيح باكيا وأعكر صفو وروحانية المجلس ، فدعاني جدي نصار وأفسح لي مكانا قريبا جدا لمرام أو يكاد يلاصقها ، ولكم أستمتعت آنذاك بصوت جدي الشجي منشدا قصيدة "ليس الغريب غريب الشام واليمن" ونحن نردد بعده مع الحضرة "يا رب صلِّ على من حلّ بالحرم  محمد المصطفى المخصوص بالكرم".

وكلما انتهوا من قصيدة شرعوا في أخرى ، حتى غلبنا النوم فنمنا قريبين لبعض ولا نعلم من سبق الآخر.

استيقظت في صباح اليوم التالي ولم أجد مرام بجواري ، فبكيت وبكيت ولم تستطع أمي أن تسكتني ، أخذتني إلى الصالة ، أعطتني موزا وعنبا فدستها بقدمي وصحت " أشتي مرام " ، قيل لي : "قد ذهبت مع أهلها بعد صلاة الفجر" ، فخرجت ولم أجد السيارة التي جاؤوا بها ، فزددت بكاءً وقبضت حفنة من رمل وحصى ورميت باب بيتنا أريد من أمي أن نلحق بها.

يخرج إليّ أبي شاهرا إحدى نعليه بيديه ، وينهل عليّ ضربا ، وهو يقول : "ما شتخلينا نرقد يا سفيان" تتدخل أمي فتنقذني من بين يديه بصعوبة ، ويعود ليكمل نومه .

أكملتُ بكائي في خارج البيت لكن بصمت ، لم أتناول الصبوح معهم ، وذهبت مع سارة لرعي الغنم ، فلحقت بنا أمي وقد جلبت معها خبزا وشاي ، وظلت معنا في مرعى (الكعاويش) حتى الظهيرة.

- يا بني تشتي تتزوج مرام .

- إيوه ، ليته صدق.

- مرام ما شتزوجك وأنت راعي غنم.

- ها كيف أماه.

- ادرس وقعت دكتور .

- لموه هي دكتورة.

- هي قدها تدرس بالروضة قاله أمه ، حتى تعرف تعلم انجليزي .

- أيوه قالت لي أنها شتكون طبيبة قلب ، وكانت تقول ، تقول : (I love you) ، مو ذي(I love you )

- خلاص يا بني ادرس .

- تمام ، من سنة.

افتتحت الدراسة للعام الجديد 1994 ، فاشترت لي أمي من دكان القرية ، ثلاثة دفاتر أبو 40 ورقة، وقلم رصاص ، ومقشطة ، وصنعت لي ببقايا قطمة الأرز حقيبة مدرسية ، فطلبت من أبي 150 ريالا حق التسجيل ، يرفض أبي أن يعطيني فلسا واحدا ، قال لي : " عادك صغير يا سفيان شترسب " وأمرني أن أدرس استماع هذي السنة.

مر شهران في المدرسة وأستاذنا عبد الجواد لا ينادي باسمي وقت التحضير ، ولا يعلم أحد السبب سواي ، غبت ذات يوم ، فوشى بي الطلاب الذين كانوا يغارون من ثناء الأستاذ ومدحه إياي ، بحث الأستاذ عبد الجواد عن اسمي في كشف الطلاب فلم يجده ، وأقبلتُ عليه في اليوم التالي وقد دخل الفصل ، فجلدني عشرة جلدات على الغياب ،  ومثلها على التأخير ، ثم سألني : ليش اسمك مش موجود بالكشف ؟ سر لعند المدير.

فأخبرته أني لم أتسجل ، وأن أبي يرفض إعطائي حق التسجيل ، وبينما يضحك الطلاب جميعهم ويقولون بصوت واحد: اخرج من الفصل ، سر ارعِ مع أختك سارة حقكم الغنم ، خلاص معابوش تسجيل.

يتمعر وجه أستاذنا عبد الجواد غضبًا ويأمرهم جميعا أن يروحوا عند أمهاتهم هم مش سفيان، ثم يجلدهم واحدا واحدا ، يجلس على كرسيه لعشرة دقائق صامتا ، وينهض ويكتب بطباشير ملونة سورة الفاتحة على سبورة سوداء ، يأمر رئيس الفصل أن يسجل من يتكلم أو يشاغب ، ثم يأمرني بالجلوس على كرسيه وتدريس الطلاب نيابة عنه حتى يرجع .

خرج الأستاذ عبدالجواد بعرجته يجر خطاه نحو منزلنا ، ولما لم يجد هناك أبي ، تبعه إلى المزرعة، وأخبره أن مثل سفيان لا يستهان به ، ومما قاله لأبي : "لو كنت فقيرا يا عبد اللطيف لدفعت عنك 150 ، لكنك ابن السيّد نصار ، وأمك دعد أخت الشيخ راوح أرضكم تعشي الجراد سنة".

وجيء بأبي إلى المدرسة ، فأخبرهم المدير الأستاذ عبده سعيد أن باب التسجيل قد أغلق ، فما كان من الأستاذ عبد الجواد إلا أن لحّ على أبي ومدير المدرسة بالذهاب إلى المركز التعليمي بالدمنة لكي يتم إلحاق اسمي في كشف المدرسة، وكان ما أراد...

دق جرس المدرسة ، لنخرج راحة ، عدت إلى أمي جريًا وأخبرتها القصة ففرحت وبدأت تحدثني عن حبيبتي مرام وباركت لي أولى الخطوات.

- أماه ، ذلحين أبو مرام ليش عمي ، هو أخو أبي.

- لا يا بني . 

- ها كيف يعرفونا ؟.

- يا بني جدك نصّار رجل صالح ، مالك اسم الله الأعظم ، لو مسح على أعمى يرتد بصيرا...

- وعلي الصنعاني كيف يعرف جدي وهو من مكان بعيد...

- يا بني جدك نصّار كان صاحب أبوه وأول المعرفة مع خال مرام الفندم بدران.

تخبرني أمي أنه في قديم الزمان تقريبا عام 1979 ، في منتصف إحدى ليالي الشتاء ، مرت بوادي قريتنا قافلة مكونة من بضعة جمال ، وأعرسوا عند مضيق وادي الدار المسمى بـ(الدوح) والذي يبعد عن قرية الدبينة مسافة قصيرة جدا ، كانت القافلة تحمل قماشا وبعض الملبوسات ، ويدعي أصحابها أنهم تجار  ، نصبوا خيمة صغيرة وبات بعضهم فيها ، وبقي أصغرهم (بدران أمين) خارج الخيمة ، وهو يزيل عن مرقده الأشواك ليطرح وسادته وفرشه ؛ لدغت يده اليمنى أفعى سامة قد باتت على جنبات الطريق تترصّد الغرباء والعابرين في الليل ،  ساعتئذٍ صاح بدران صوتا مفزعا ، وكأنه قد فارق الحياة ، ثم أغمي عليه ، يتجمع حوله رفاقه ، ولا أحد فيهم يعلم أي داهية قد نزلت ؟ تتعالى أصواتهم طالبة نجدة أهالي قرى واقص والدبينة والمكلة ، أغار عليهم ثلاثة من شبان واقص الذين باتوا مرابطين في نوبة الحراسة المطلة على الدوح ، وتتناوب تلكم الحراسة كل ليلة على حفظ طريق الدوح من شرور الجبهة التخريبية للحزب الاشتراكي الحاكم في جنوب اليمن آنذاك .

جاء أولئك الشبان وبيد أحدهم سراج يستضيئون به  ، وقد رأوا  تلك الأفعى لم تزل واقفة بالقرب منهم  ، ولكأنها تقول : "لن يهنأ أحدكم بنوم ، ولن تمروا من هنا بسلام".

 لم يعرها أحدُهم أدنى اهتمام ، حال بدران مهولا ، جسده يتصبب عرقا بل ويشتعل نارا، لونه يكاد يصير غربيبا،  الرضاب يملأ شدقيه، ويتزايد في كل آنٍ شهيقا وزفيرا.

- كيف نفعل ؟ أغيثوا صاحبنا ! أغيثوا بدران .

- شلومه على ظهوركم بسرعة ، سنذهب به عند السيّد نَصّار .

- من هذا السّيد نصّار ؟ وهل باستطاعته أن يفعل شيئا.

- نعم لا تتاخروا ، نصّار من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، كذا خبير في العنبر والأعشاب ، ودمه ينفع من عضات الكلاب ولدغات الثعابين .

يفيق بدران من إغمائه أثر الحجامة والرقية ، فيفرح رفاقه بذلك فرحا عظيما ، أمر لهم بعشاء فأكلوا ، وأرادوا أن يرجعوا بصاحبهم إلى الخيمة  .

قال لهم السيّد نصّار  : "لا ، ليس ذلك ممكنا ، حالته تستدعي أن يبيت عندي ، لاستخراج أثر السم ، أليس محموما ، سأعطيه دما من دمي يشربه على الريق" . 

يعود الرفاق إلى قافلتهم ، ويبيت بدران في منزل السيّد نصّار الذي لم يأل جهدا في تدفئته ومواساته ، طلع الصبح ؛ فصليا الفجر معا ، ويفتتح السيّد يومه كعادته بقراءة سور من القرآن الكريم ، يقترب إلى بدران يضع إحدى يديه على رأسه ويقرأ عليه ويتمتم.

شرقت الشمس فتجرع بدران حسوات من دم السيّد نصار ، وأُعلم بأن دم السلمي ينفع (للعناز ) ويذهب بسموم الأفاعي الخبيثة من عروق الأجساد ، وذلك بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجد الأسلوم الذي أسلم دون قتال . 

يشعر بدران بالعافية تسري في جسده ، فيخرج صرة ويدفعها إلى السيّد نصار أجر ما صنع ، يضحك السيّد نصّار ،  قائلا :"ليس من عاداتنا أن نأخذ أجرا على إغاثة الغريب وابن السبيل ، أتريد أن تعيرنا قبائل العرب"؟! وأعطاه حرزا يربطه على عنقه لمدة لا تقل عن شهر .

قفل بدران إلى منزله في قرية الرجمة بوادي ميتم ، وما لبث يحدث قومه عن ذلك السيّد الشهم والطبيب المعالج ، وكلما تألم أحد في عزلة ميتم أو لدغ أخذوه إلى نقيل الإبل حيث قرية نصّار.

 في قرية الخرابة القريبة لقرية الرجمة ، كان جد مرام الحاج حسن عليلا وقد أعيأ داؤه الأطباء ، وقد عزموا على قطع ساقه التي يبست ، وذاك أثر لدغة ثعبان. 

 فدله بدران على من بيده العلاج وحدثه عن أخبار سفرته ولدغته في تلك الليلة البئيسة ، ثم سارا معا نحو السيّد نصّار سنة 1981 ، وكان من أمر الحاج حسن ما كان ، بعد سبعة أيام أبرئ من سقمه ، وشفيت ساقه ،  وما رجع إلى منزله إلا برفقة السيد نصّار ، الذي أكرم في قرى ميتم إيما إكرام ، خرج أبناء الخرابة كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم -احتفاء بمقدم نصّار- يهتفون :

طلع البدر علينا 

من ثنيات الوداع 

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

وهناك علم السيد نصّار أن بدران قد تم تعيينه قائدا لمعسكر السواد بمرسوم جمهوري من فخامة المشير علي عبد الله صالح ، وعلم أنه ما كان له أن يعرف بدران لولا أنه كان ضابطا في الأمن السياسي وما كان ليبيت في الدوح لولا مهمة البحث عن المخربين وفلول المجرم أحمد بكير في قرية الدبينة التي يسكنها مع أهله .

ومن ثم اشتهرت كرامات السيّد نصّار في وادي ميتم لا سيما في قرى الخرابة والساكن والضرائم والرجمة ، وكبرت العلاقات ، وتبادلت الزيارات ،  وقد توالت الأيام ليموت الحاج حسن 1983، وقد أوصى أن يغسله ويأم الناس في الصلاة عليه السيّد الذي وهبه ساقه بعد أن أصرّ الأطباء على بترها ، احتار أبناء الحاج حسن في تنفيذ الوصية ، اختلفوا وكادوا أن يقتتلوا ، سيما وأن قرية السيّد نصّار تبعد عنهم مئات الكيلوهات .

في تلك الأثناء يهلُّ عليهم السيّد نصّار بإزار أبيض وشال أخضر ، وقميص مفتوحة أزراره ، وخيزارنه في يده ، رفعها في وجوههم قائلا : لا تختلفوا يا أولادي ، في أي وقت نادوا يا نصّار ، وأنا سأتيكم في الحال . كبروا وهللوا ثم غسلوا أباهم ودفنوه . وأراد جدي نصّار أن يغادر أرض ميتم -حنقا منه- لاختلافهم جوار جنازة أبيهم الحاج حسن ، لكن عمي علي أبى ، وأقسم عليه، وأخذه إلى منزله .

- علي  : أنا أريد ميراث الصداقة التي بينك وبين أبي رحمة الله عليه.

- نصّار  : بالله بالله ، خير خلف لخير سلف.