آخر تحديث :الخميس-21 نوفمبر 2024-11:08م
ملفات وتحقيقات

إستطلاع : جولة في محافظة المهرة قبل 41 عام (مصور)

الثلاثاء - 10 ديسمبر 2013 - 03:26 م بتوقيت عدن
إستطلاع : جولة في محافظة  المهرة قبل  41 عام  (مصور)
مجموعة من اهالي المهرة يستعدون لتناول وجبة الغذاء قبل 41 عام من اليوم
عن مجلة العربي

هذا الاستطلاع نشر في مجلة العربي الكويتية في فبراير من العام 1972 وكان عن محافظة المهرة حينها ، واستجابة لدعوة اطلقتها صحيفة "عدن الغد" لقرائها تم تزويدها بهذا الاستطلاع من قبل احد القراء .

ولاهمية هذا الاستطلاع تعيد صحيفة "عدن الغد" نشره  والذي اعده  الزميل / سليم زبال- تصوير اوسكار مترى 

 

رمال وجمال.. واناس يعيشون في جحور .. ولا شيء اكثر من هذا كانت هذه هي الصورة التي طالعتنا عندما بدأنا رحتنا في بلاد المهرة .. ولا تسال عن بلاد المهرة الآن ..فسوف نأتيك بالجواب عن هذا الشعب المنسي .. عن اصله وفصله وتاريخه وكل شيء يخطر في بالك..

 

وقفنا نتأمل هذا الذي نراه امامنا ، وقلنا نسال انفسنا ((ترى اي مصيبة تلك التي حلت بهذا البلد ؟ فجعلتها تعيش في هذا التخلف المخيف ؟))

 

حرموا البلاد من كل شيء

وفي رئاسة مجلس الوزراء في عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التقينا بشاب هادئ وسيم ضخم قوي البنية وكان لقاؤنا به بعد ان انتصف الليل او كاد .. كان يجلس في مكتبه يسرح خاطره في تلك الاكوام المكدسة من المشاكل التي تعاني منها بلاد المهرة .. انه رئيس وزراء اليمن الديمقراطي الاستاذ علي ناصر محمد .. ودار حديث طويل اختتمه بقوله ((.. لقد رحلوا عن بلادنا بعد 130 عاما من استعمارهم لها .. رحلوا مخلفين وراءهم شعبا تخنقه المتاعب والمشاكل والتخلف .. رحلوا بعد ان حرموا البلاد من كل شيء: من العلاج والتعليم والطرق والمواصلات والزراعة والصناعة.. كان همهم التركيز على قاعدة عدن ولا شيء الا عدن ، واهملوا مليونا ونصف مليون يعيشون فوق ارض مساحتها 112 الف ميل مربع)).

 

((انا سعيد لأنكم ستتوجهون غدا الى محافظتنا السادسة التي كانت تعرف باسم بلاد المهرة، سعيد لأنكم ستنقلون للقارئ العربي صورة واقعية لمأساة يعيشها شعب عربي منسي مجهول منذ مئات السنين)).

 

الليل ستار للعيوب

وبدانا رحلتنا على امتداد الساحل الجنوبي لشبه جزيرة العرب .. الطائرة الصغيرة نقلتنا في ساعتين من عدن الى المكلا ، عاصمة المحافظة الخامسة التي كانت من قبل ذلك  حضرموت .. من المكلا انطلقت بنا سيارة لاندروفر على ساحل البحر الذي انحسر عنه الماء .. ولكن سرعة السيارة لم تسعفنا كثيرا فقد بدأت امواج المد تندفع على طول الساحل فحاصرتنا مياهها داخل السيارة .. وانزاح المد.. وعاودنا السير على الساحل المبتل الذي بدأت تتكاثر عليه الصخور فتجعله غير صالح للمواصلات، واتجهنا صوب الداخل .. الرمال الناعمة تعوق حركة السيارة، ولكنها سيارة صحراوية تعرف كيف تتخلص من المآزق .. الرمال تحيط بنا من كل جانب .. واسدل الليل ستارا حجب عنا منظر التلال الصعبة البخيلة المجدبة.

 

الانطلاق صوب المجهول

ومع دخول الليل ظلت السيارة تنطلق في كل اتجاه يحلو للسائق، كنا مندفعين صوب المجهول .. صوب ارض منزوية عن  اضواء الحضارة ، صوب ارض مرتبطة بعصر غير عصرنا.. هؤلاء العرب الاقحاح ، الذين ما زالوا يفتخرون بانهم من نسل قحطان. 

 

اشعب هو السبب

وعدنا بالذاكرة الى الوراء .. الى الازمنة الغابرة .. الى ايام الهجرات العربية الاولى .. الى عصر العرب العارية .. وبين صفحات التاريخ بدانا نبحث عن القصة رجل اسمه: مهرة بن حيدان. 

 

وعثرنا عليه، وهو ينطلق نازحا من تهامة الى ارض سبأ ليستقر في مأرب مع بطون مختلفة من قبيلة قضاعة الشهيرة ، التي احتار الناسبون في نسبها، البعض يقول انها من نسل عدنان ، والبعض الآخر يقول : انها من قحطان .. ويظهر ان ((مهرة)) قد نزح مع قضاعة في بداية التاريخ الميلادي او  قبله قليلا .

 

وعاش الجميع بسلام في مدينة مأرب ، حتى جاء ذلك اليوم الذي نزل فيه غلام اشعب  الى بئر ماء في مأرب ، وادلوا عليه دلوهم ، فطفق الغلام يملا لمواليه ويؤثرهم ويبطئ عن الآخرين .فما كان من احدهم الا ان ثارت اعصابه وامسك بحجر والقاه على راس الغلام المسكين في قاع البئر فدمغه .. وقامت الدنيا ولم تقعد ، واقتتل القوم  فيما بينهم .. ثم تفرقوا .. وبدأوا نزوحا جديدا ، قفل بعضهم راجعا الى تهامة، والبعض الآخر الى المدينة المنورة .. اما الشخص الذي يعنينا وهو ((مهرة بن حيدان)) فينتسب إليه كل رجل مهري.

 

في ظل التاريخ

كانت معلوماتنا عن بلاد المهرة منحصرة فيما ذكرته كتب التاريخ، وحاولنا سد هذا النقص في عدن فرحنا ندق ابواب الوزارات، نسالهم معلومات عن بلاد المهرة او  المحافظة السادسة في جمهورية اليمن الديمقراطي .. وكانت الاجابة : لا يوجد عندنا شيء .. انها ما زالت تعيش في ظلام التاريخ .. هكذا قالوا لنا.

 

أين سيحوت؟

كانت هذه الاخبار تتابع في ظلام الليل ، والسيارة تتأرجح بنا .. لقد مضت 12 ساعة منذ ان تركنا المكلا في طريقنا الى سيحوت .. القرى تتابع امامنا لا اثر انسان فيها .. وفي كل مرة نسأل السائق .. هل هذه سيحوت ؟ فيجيبنا لا .. كان التعب قد بلغ اشده منا عندما دخلنا قرية قالوا انها سيحوت .. نظرنا الى مؤشر السيارة فوجدناه يسجل 189 ميل قطعناها في 12 ساعة من المكلا الى سيحوت.

 

هكذا هي الحياة

وعلى ضوء لمبة الجاز ذهبنا الى منزل حديث البناء ، وصعدوا بنا الى غرفة في الطابق الثالث .. كان المنزل خاليا تمام من الاثاث .. وقالنا الحارس ((لحظة واحضر لكم الفراش)) وعاد بعد ربع ساعة حاملا قطنية القاها على الارض، ثم حيانا قائلا: تصبحون على خير و ذهلنا ... ولكن هذه هي الحياة في سيحوت .. ونمنا على ارض صلبة دون وسادة او  غطاء .. ولم نكن في حاجة الى غطاء فمناخ سيحوت رائع ممتاز .. وتقع  سيحوت عند ساحل البحر على مقربة من مصب وادي حضرموت الذي يتبدل اسمه الى وادي المسيلة عند مصبه .. وسيحوت معزولة تماما عن العالم لا توجد طرق تؤدي اليها ولا مطار تهبط  فيه الطائرات  .. والبحر هو بابها الوحيد الى العالم. 

 

سر الختان المتأخر

والواقع ان بلاد المهرة كلها لم  تنفتح على  العالم الا في عام 1968 وقبل هذا التاريخ كانت البلاد مغلقة على 37 قبيلة متناحرة ، لكل منها عادتها وتقاليدها ومناطق نفوذها .. اما السلطان احمد بن عيسى بن عفرار ((ملك المهرة وسقطرى)) فلم يكن يجلس في البلاد وانما كان يهرب منها الى سقطرى .. تاركا حكم البلاد الى القبائل القوية تتقاتل وتتناحر وتورث الابناء ثار الآباء والاجداد.

 

ولحماية الجنس المهري من الانقراض عن طريق الثأر وضعت القبائل عرفا يحرم قتل اي طفل غير مختون .. وهذا يفسر لنا سر تأخر ختان الاطفال الى سن السادسة عشرة ..

 

حرب أهلية وفوضى

وكان المهري (قبل الاستقلال) لا يجسر على السير الا والبندقية على كتفه للدفاع عن نفسه .. وفي الغيضة (عاصمة المهرة) تأزم الموقف الى شبه حرب اهلية بين طرفين .. وفي الجزء السفلي تمركزت قبيلة كدة واشتد القتال  الى حد استعملت فيه المدافع بينهما. وفي ظل ذلك الوضع انعدم التعليم وانتشرت الخزعبلات واصبح رش دم الماعز على جسم المريض وكيه  بالنار هي الطريق المثلى لعلاج السل والملاريا وغيرها.

 

بلاد المهرة في سطور

وتضم بلاد المهرة 6 مدن رئيسية هي : الغيضة وجاذب وحوف وصقر وقشن وسيحوت وتجمعات قروية حول آبار المياه والغيول والكرفان والكرف هو الحفرة الكبيرة الممسوحة بالاسمنت لحفظ مياه الامطار لفترة عام  او اكثر .. والكرفان منتشر بصورة واسعة في البلاد وقد احصوا عددها في المديريات الغربية فقط فوجدوها 79 كريفا.

 

ومساحة بلاد المهرة 30 ميلا مربعا يعيش فوقها 5% من مجموع سكان جمهورية اليمن الديمقراطي والبالغ مجموعهم مليونا ونصف مليون نسمة.

 

اما سيحوت نفسها فلا يتعدى عدد سكانها خمسة آلاف نسمة ، مهمتهم في الحياة صيد  الاسماك وتجفيفها على الساحل تحت اشعة الشمس لاستعمالها سمادا للزراعة. وكانوا مشهورين بتصدير البخور واللبان وتدهورت هذه التجارة بسبب انهم لم يعودا يصعدون هذه الجبال الذي تنمو شجارها تلقائيا على رؤوس هذه الجبال.

 

الخطر عند رأس فرتك

ومن سيحوت ركبنا السنبوك للقشن ومن قشن الى صقر وحصوين .. وتوقفنا عند خيصيت فجبال فرتك ذات الصخور الحمراء التي تعلوها اشجار اللبان ، تقف حائلا بينا وبين متابعة رحلتنا .. وكانت االوسيلة الوحيدة لمتابعة الرحلة هو السنبوك مرة ثانية لينقلنا بحرا الى الغيظة.

 

ميناء النفط  المرتقب

وازاء هياج البحر قررنا التراجع مسافة اربعة كيلومترات الى حصين حيث البحر اقل امواج .. وبدأ الناس يسحبون السنبوك بالحبال من راس فرتك حتى اخرجوه بسلام.. وركبنا السنبوك وانطلقنا الى الغيظة عاصمة المهرة، كنا نسير قريبين من الساحل فنشهد صخور الجبال  تغوص في مياه الزرقاء كل جبل له اسم : العقبة الصغيرة .. العقبة الكبيرة .. عقبة الحمار .. رأس شروين.

 

ووقف القارب عند منطقة ضبوط .. ومن ضبوط ركبنا سيارة جيب من مخلفات  الحرب الماضية ليس فيها مقاعد ولا زجاج ومع ذلك شعرنا براحة غريبة عندما ركبناها .. فالسير على اليابسة افضل الف مرة من ركوب بحر مضطرب .. ثم تابعنا السير حتى وصلنا الى الغيظة عاصمة بلاد المهرة بعد  ثلاث ساعات.

 

لغة في طريقها للانقراض

واول ما يتساءل المرء هو عن لسان اهل البلاد وبماذا يتحدثون؟ وقد اجاب الجغرافي العربي الادريسي على هذا السؤال عام 550هـ (1155م) بقوله: ((لسان اهل المهرة مستعجم جدا ولا يكاد يفهم وهو لسان حميري قديم..)).

 

والواقع انهم يتحدثون ثلاث لهجات هي المهرية والشمرية والسقطرية .. (ودراسة هذه اللهجات تبين لنا بوضوح انها ليست مشتقة من اللغة العربية الفصحى وإنما تكون مجموعة من اللغات والنقوش اليمنية في اسرة اللغات السامية..).

 

وحاولنا نتتبع اللهجة المهرية فوجدناها تختلف من منطقة الى اخرى وما تزال اللغة المهرية هي اللغة الوحيدة التي يتكلم بها اهل البادية من القبائل الرحل .. اما في سيحوت والغيظة فقد اخذت في الاندثار ولكنها مازالت منتشرة بكثرة في القشن.

 

طاط وشطيط

ان المهرة لها ارتباط تاريخي بالمنطقة والدولة تعتبرها من التراث القومي.. وهذا نموذج لبعض الكلمات المهرية وترجمتها الى العربية:

 

ما اسمك _ همك مون

 

جاء من السوق _ نكاك من السوق

 

اما كلمة عين فتنطق عين ولكنها تتحول في الجمع الى عينتن بدلا من عيون كما في العربية.

 

اما العد من 1 الى 10 فهو على هذه الصورة: طاط _ ثرو _ شاطيط (واحيانا يقولون : شاصية او فاتيت) روبوط _ خوموه _ يتيت _ يمنيت _ تسيت _ (واحيان تسيعات) عشريت.

 

اما بقية الارقام لرقم 10 فيستعملون نفس الكلمات العربية

 

أشهر الإبل العربية

واكثر ما يلفت الانتباه في مدن المهرة الاعداد الهائلة من الابل والجمال التي تفوق عدد السكان .. انها الابل العيدية اشهر الابل العربية على الاطلاق وذكرها المؤرخون والشعراء .. فقال الادريسي ((والابل المنتجة عند هؤلاء العرب لا يعدل بها شيء في سرعة جريها ومن الغريب ما ينسب اليها انها تفهم الكلام وتعلم ما يراد منها و لها اسماء اذا دعيت بها جاءت بغير تأخر ولا توان..)).

 

حليب الناقة

وبدأنا نسأل عن النياق والجمال فقال لنا مسئول الزراعة : اننا نقدر عددها بحوالي 100 الف ناقة في المحافظة السادسة.

 

اي ان كل شخص في بلاد المهرة يملك في المتوسط جملا ونصف الجمل ورحنا نسأل عن اسماء نياقهم فوجدنا اسماء: الغزال وزهرة ووردة... وعندما لاحظ احدهم اننا نسأل بكثرة سألنا وقال ((ما عندكم جمال؟!)) فقلنا: لا. قال: ما تشربون حليب الناقة؟! قلنا: لا.

 

ضرب كفا بكف.. وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يقول ((عجيب امركم .. كيف تعيشون دون حليب الناقة .. ان فيه قوة وصحة يصلح المعدة ويغذي الجسم)).

 

سكر ودقيق وتمر وسمك

وجلسنا عند حافة بئر ارتوازي نستمع الى مهري يدلل ناقته ويدعوها لشرب الماء المخلوط بالسكر والدقيق: ((يا هئ بلانة ووهيبي .. يا هئ بلانة وهيبي..)) وتقترب الناقة وتشرب بدلال. ان المهري يقدم لناقته اكلا يوميا يكلفه عشرة شلنات على الاقل.. يقدم لها التمر والقصب والعومة (السمك المجفف) والسكر والدقيق المخلوط بالماء العذب.. انه يحرم نفسه وعائلته من كل سيء في سبيل تأمين الطعام الجيد لناقته حتى تعطيه حليبا دسما مليئا بالفيتامينات.. ويشتري المهري المؤونة اللازمة لحاجة جماله طوال اربعة اشهر.

 

الطماطم في رمضان فقط

ونتيجة لهذا الاهتمام الزائد بمأكل الناقة اصبح الناس لا يزرعون الا القصب الذي تأكله الناقة ويسمونه المسيبلي او الرهطوط، ولم نستطع ان نسمع عن شيء اسمه الطماطم، وأي شيء من الخضروات في المنطقة .. وعندما نسألهم يقولون: ان بعض التجار يجلبون الطماطم في شهر رمضان فقط.

 

الناقة وتقاليد الزواج

لقد اصبحت الجمال تمثل مشكلة اقتصادية مستعصية في المنطقة فالاقتصاد والزراعة ومجهود الاهالي كله مسخر لتامين متطلبات هذا الحيوان الاليف الصبور حتى في تقاليد الزواج تدخلت الناقة فالمرأة لا تدخل منزل الزوجية الا اذا اشترى لها العريس ناقة حلوبا يتراوح ثمنها بين 3 و6 آلاف شلن اي 150 الى 300 دينار يمني جنوبي.

 

فدان واحد أفضل من عشرة

والزراعة في بلاد المهرة تمر بمرحلة انتقالية دقيقة فقبل المرحلة الانتقالية كانت القاعدة المتبعة هي: الارض للاقوى.. اليوم حاولت الدولة تقديم اراض للمواطنين لكنها اصطدمت بوضع غريب فالمهري يرفض ارضا مساحتها عشرة آلاف فدان بعيدا عن منزله مفضلا عليها مزرعة مساحتها فدان واحد بجوار منزله ان الارض لا تهمه فهو لا يريد ارضا، اكثر الغذاء اللازم لناقته فقط.

 

اتكالية وهجرة

والضربة القاضية التي اصابت الزراعة هي الاتكالية، فالرجل المهري يعيش في فراغ هائل يقتل وقته دون انتاج .. انها بلد استهلاك ومنطقة تصدر الجنس البشري .. لقد هاجر  منها اجداده فلم يعد يصعد الى قمم الجبال ليجرح شجرة اللبان ويأخذ انتاجها، لقد هجر هذا العمل الصعب واتجه الى دول الخليج العربي بلاد البترول، حيث العمل اخف والربح كثير .. يرسل الاموال الى اهله المعتمدين على هذا المصدر الوحيد.

 

ويتمتع المهري في الهجرة بالسمعة الطيبة فهو لا يسرق ولا يخون الامانة مما اكسبه الثقة في كل مكان يقصده، وادرك الكثيرون هذه الحقيقة فعمدوا الى تزوير الجوازات المهرية، وفي دبي اكتشفوا عصابة لتزوير الجوازات المهرية للهنود والصوماليين!!.

 

التعالي على الأرض

ومن المؤسف ان هذه الهجرة اخذت طابع الارتزاق دون ان يستفيد المهري من التقدم الذي يلمسه في بلاد المهجر .. واذا حدث وحاول احدهم اخال اصلاحات للبلاد وجد في انتظاره جدارا منيعا من الأفكار والتقاليد البالية، وسيلا من الاتهامات موجها إلى كل خطوة تقدمية يخطوها .. وفي احدى المرات حاول احدهم انتعال الحذاء، فاتهموه بأنه يتعالى على الأرض!!.

 

"خام .. خام"

ويعيش المهري في بلاد المهجر عيشة قاسية، يحمل الاقمشة على ظهره، ويطرق ابواب المنازل لبيعها، وتتسع تجارته، فيستقل بالعمل في ركن صغير من السوق وعندما يتجمع لديه قدر من المال يركب اللنش الكبير ويعود إلى بلاده وفي جيبه شيك بالمبلغ الذي اقتصده.

 

وفي اسواق الشحر وسيحوت يضيع نصف المبلغ في شراء المِحَنْحِنْ الفضي والمصنوعات الذهبية والفضية .. وينفق كل ما تبقى معه في دفع المهر الخيالي الذي يصل إلى نحو 15 الف شلن، رغم قرار الحكومة بتخفيضه إلى 2000 شلن فقط للعذراء و1200 شلن للمرأة المطلقة أو الارملة.. (كل 20 شلنا = دينارا يمنيا جنوبيا او جنيها استرلينيا تقريبا..).

 

(الرضوة)

والمرأة المهرية قوية متسلطة متحكمة في منزلها ورجلها .. لا تلفظ اسمه ابدا على لسانها، ولا تغسل له ملابسه او ترتب له سريره، او حتى تقدم له كوب ماء .. وعندما تضع طفلها لا يقربها زوجها لمدة سنتين على الأقل .. اعتقادا منها بأن مخالفة هذا العرف قد تنال الطفل بالسوء!.

 

والطفلة الصغيرة تمرح وتلعب في الطرقات الرملية (اذ لا يوجد اي طريق معبد في جميع مدن بلاد المهرة) حتى تصل إلى سن 11 سنة، وبعدها ترتدي جسدها، وتجلس بالمنزل في انتظار ابن الحلال.

 

واذا تزوج الرجل على زوجته الأولى تركت له المنزل واطفالها واعتكفت في بيت والدها، ولا ترجع إلى منزلها الا في حالة مجيئ الزوج لمقابلة اهلها، الذين يشترطون عليه أن يدفع لزوجته الغاضبة نفس قيمة المهر الذي دفعه للزوجة الثانية، ويسمون هذه العملية "الرضوة".

 

أول لقاء مع امرأة مهرية

وطلبنا من رجال قشن ان يسمحوا لنا بلقاء احدى نسائهم، فارتسم الامتعاض على الوجوه، وقالوا: "مستحيل ان تقبل امرأة من نسائنا التحدث إلى شخص غريـب...". قلنا: "نرجو ان تعرضوا الامر على المرأة واتركوا لها حرية الرفض او القبول، بعد ان تشرحوا لها مهمتنا الصحفية..".

وبعد ساعة جاء الينا محاسب مديرية قشن سالم بخيت سالم شقيت يقول: "لقد قبلت احدى السيدات ان تتحدث اليكم لكن بدون تصوير..".

 

وقبلنا الشرط .. ودخلنا إلى منزل مشيد بالطين على هيئة قلعة .. وعند الممر جلست كتلة سوداء في الظلام مع طفلتيها، سألناها: "كيف الحال"؟ .. اجابت "مرتاحة".. وبدأنا الحديث عن العادات التي تمنع المرأة من خدمة زوجها او التفوه باسمه، فقالت: "هكذا عادتنا .. منذ عشرين سنة وانا لا اعمل شيئا لرجلي .. لكن اعدكم انه من الان وصاعدا سأعتني بأموره ومأكله ومشربه".

 

وهنا ارتفع صوت عال من داخل الدار يصيح قائلا: "لا .. لن تفعلي هذا".. وخرجت الينا امرأة عجوز تضع حلقا في انفها وبدأت تضربنا بقبضة يديها قائلة "بغينا نعيش مثل الاول .. لا نروح لأحد .. ولا يجينا احد .. اريد بناتي يعشن نفس عيشتي .. لأنها احسن عيشة".

 

قلنا مقاطعين: "هل سافرت للخارج؟"

 

فصرخت: "ما اسافر إلى مكان الا للقبر"

 

قلنا لها فجأة: "ما اسم زوجك"

 

فصرخت: "ما اعرفه .. ما اعرفه"

 

فقهقهنا، واغاظتها ضحكتنا، فصرخت: "اسمه سليمان بن سولم، ايها الملاعين ..".

 

وكأن كابوسا قد انزاح عن كاهلها، فانفرجت اساريرها.

 

فسألنا ابنتها: "او هو .. هو" اي نعم .. نعم.

 

قلنا : "هل تأملين في ان تصبح بنتك مثلك؟".

 

اجابت: "لا .. لا .. بغينا الاولاد والبنات يتعلموا ويعرفوا الدنيا ويكونوا احسن مني ومن ابوهم".

 

وهنا صرخت الجدة: " لا .. لا .. انتم تريدون تجعلوا الاطفال عسكر .. لا . لن اعلمهم .."

 

قلنا للأم الشابة: "هل يعجبك خط حياتك الحاضرة، ولماذا لا تبدلينه .. ؟".

 

اجابت: "العادات والتقاليد هي السبب .. تصوروا انه عندما اغسل ملابسي بالصابون يعيبون عليَّ ذلك وفي كل مرة اسعى لتغيير شيء من عاداتنا تسخر مني بقية النساء .. اننا نطلب منكم ان تفتحوا لنا مدارس وتعلموا اولادنا.. ".

 

وفي حركة خاطفة نزعت الحجاب عن وجهها قائلة: "ولأثبت لكم ان المرأة المهرية تريد التقدم سأنزع الحجاب عن وجهي لأول مرة، واسمح لكم بتصويري .. إن أمنيتي ان ارى العادات والتقاليد العفنة تنزاح عن مجتمعنا، وان تنتهي عملية ارتدائنا لأرطال الذهب والفضة .. واريد أن تكون عندنا مدارس لتعليم البنات ليعشن حياة كريمة.. ".

 

وسألناها عن اسمها، فأجابت: "لولو بنت عبدالرحمن".

 

وعندها بدأت الجدة تصرخ قائلة : "وانا كذلك .. التقطوا صورتي..".

 

والتقطنا الصورتين، وهما لأول نساء مهريات يسمحن بالتقاط صورهن سافرات.

 

شموع تحرق لتنير الطريق

والحديث عن العادات والتقاليد واسلوب حياة ابناء المهرة حديث طويل غريب لا ينتهي، ولا يمكن حصره كله في هذا الاستطلاع السريع.

 

ولكن لا يمكن ان نختم الاستطلاع دون الإشادة بمجموعة من المسئولين الذين يحترقون كالشمعة لينيروا الطريق المظلم أمام اخوانهم المهريين .. يعملون دون ان يكون أمامهم اي تخطيط أو دراسة مع الأهالي 17 مدرسة للبنين، كل منها حجرة او نحو ذلك، و6 مدارس للبنات، فتحوا كل الأبواب التي تواجههم، من عدم وجود الأموال اللازمة .. وعدم وجود اي علاقة بين المدرسة والبيت .. وجهل الأطفال باللغة العربية .. وانعدام المواصلات بين كل مديرية، أضف إلى كل ذلك مشكلة المنهج: فالتاريخ تاريخ العراق، والجغرافيا، جغرافية لبنان .. والمطالعة، مطالعة الكويت .. وكتب الدين من السودان .. هكذا خليط عجيب من الكتب والمناهج تجعل مهمة المدرس والتلميذ في غاية الصعوبة.

 

اضف إلى ذلك أم المشاكل المركزية في عدن .. كل شيء يجب طلبه من مكاتب الوزارات في عدن .. حتى ورق الكتابة يجب طلبه من عدن .. وعدن لا ترد عادة  على اي خطاب الا بعد شهور وشهور .. لتقول: "ناسف أزمة في ورق الطبع على الآلة الناسخة..".

 

وفي احدى المرات ارسلت عدن اربع حراثات لتقلب 700 فدان في بلاد المهرة .. لكنها لم ترسل معها اي قطعة غيار، فتوقفت ثلاث ماكنات عن العمل، وانكسرت بعض اسنان الماكنة الرابعة. ان الأرض طيبة وصالحة للزراعة في مناطق كثيرة، ولكن عدم وجود ميزانية للزراعة، ومشتل حكومي، وعدم وجود نوعية، وعدم استهلاك الفلاح للأرض – حتى الآن – مما يجعله لا يزرع اشجارا معمرة خوفا من سحب الأرض منه ، كل هذه هي بعض مشاكل الزراعة في بلاد المهرة.

 

القطرة الأولى من الدواء الشافي

هذه كانت بعض مشاكل التعليم والزراعة، اما اذا رتبنا جميع المشاكل التي تعانيها بلاد المهرة ترتيبا تصاعديا لوجدنا ان المواصلات تحتل القمة.. عوائق طبيعية: جبال ورمال، وبحر ينغلق خمسة شهور في السنة من مايو إلى اكتوبر بسبب الاعاصير والانواء، وعدم وجود طريق بري واحد .. كل هذه العوائق تفرض العزلة على هذه البلاد وتقضي على كل محاولة اصلاح .. مثال ذلك: زرعوا القطن ونجحت زراعته بشكل مذهل، ولكن كيف يتم تصريفه ؟ ولا يوجد طريق وميناء، فتوقفت التجربة وجمدت!!.

 

لهذا قال لنا المحافظ الشاب محسن علي ياسر : "ان إنشاء طريق تربط بين مدن المحافظة السادسة .. وانشاء ميناء تقف عليه السفن، هما القطرة الاولى من الدواء الشافي لمختلف العلل التي تعاني منها بلاد المهرة".

 

حسرة واشتياق

وفي مطار الغيظة الرملي وقفنا 5 ساعات ننتظر الطائرة الصغيرة المتأخرة .. ولكن عدد الركاب اكثر من عدد مقاعد الطائرة .. فبدأ المضيف يرجو الركاب الزائدين النزول من الطائرة، واستمرت عملية الاقناع فترة نصف ساعة، نزل بعدها الركاب.

 

وطارت بنا الطائرة الى المكلا .. واختلفت احاسيسنا ومشاعرنا، فمن رثاء لحال البلاد وسكانها وحسرة على انعدام المساعدات العربية، إلى فرحة داخلية قد وصلت الذروة .. اشتياق إلى توافه المدينة التي لم نحتفل ابداً بها .. اشتياق لأكل قطعة جبن، وحبة طماطم، وصحن خضروا، وقضم برتقالة او تفاحة .. حتى كوب ماء صاف انه نعمة .. اما ان يكون مثلجا فهذا هو الترف بعينه .. اشتقنا إلى الجلوس على المقاعد والاكل بالسكين والشوكة .. اشتقنا إلى الملح الناعم بدلا من الملح الحجري، اشتقنا إلى كل شيء حتى الكهرباء وضوء المصباح .. كل هذه النعم من نعم الله، لا يشعر بقيمتها الا من عاش في بلاد المهرة .. بلاد الحرمان من كل طيبات الحياة!.

 

حقيقة ان المهرة شعب صغير وفقير، ولكنه غني بتاريخه وكفاحه ومحاولته فرض وجوده على العالم والخروج من عزلته .. انه ليس في حاجة إلى مساندة عربية فقط ، بل إلى مساعدة عالمية لإنقاذه من الفناء والضياع.. ترى هل سنساعده..!؟.

 يمنع نقل هذه المادة باي شكل من اشكال النقل