آخر تحديث :السبت-21 ديسمبر 2024-01:43ص
أدب وثقافة

رائحة من الماضي(انطباعات عن معرض الفنان لبيب توفيق)

الجمعة - 20 ديسمبر 2024 - 10:18 م بتوقيت عدن
رائحة من الماضي(انطباعات عن معرض الفنان لبيب توفيق)
كتب / د.عبدالحكيم باقيس

صباح يوم أمس الخميس 19 ديسمبر 2024 زرت معرض صديقي وزميلي القديم الفنان لبيب توفيق، في قاعة المرسم الحر في التواهي، ذلك الحي الذي ينتمي إلى الزمن الكوزموبوليتاني (ستيمر بوينت) وفق التسمية البريطانية، ولم تبق منه إلا بعض المباني العتيقة إلى تشير إلى أحد أزمنة عدن، كان المرسم الحر يقع في مواجهة مدخل التواهي البحري، أمام بوابة الرصيف السياحي الذي أمر ببناه الأمير إدوارد في 1919، مكان هادئ وجميل يطل على الميناء وعلى الطارئ والعابر في عدن في انفتاحها في باتجاه العالم، نافذة للتأمل والتخييل واستعادة الأزمنة الصاخبة من حياة المدينة، قبل أن تُغلق على نفسها وأحلامها في الزمن البروليتاري، موقع المرسم في مكان جميل وملهم تشعر به القلوب ذات الحساسيات الجمالية والحس المديني.


استمر المعرض في ثلاثة أيام بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر، وقد خصص الفنان لبيب توفيق المعرض للوحات تشكيلة للخط العربي بمختلف أنواعه (الثلث، الديواني، الفارسي، الكوفي) أبرز من خلاله القيم الجمالية للخط العربي القابل للتصوير والتشكيل، فضلا عن القيم الموضوعية فيما حملته الأحرف والكلمات والعبارات ومعان ذات دلالات عميقة، تجسدت في لوحات بديعة جلها كان قد اتخذ من المدينة عدن موضوعًا للإبراز في تخيره لمشاهد ومناظر وعلامات أيقونية، كما تنوعت اللوحات في اشتغالها على اللون المتناغم مع الموضوع، حيث الألوان الداكنة المعتمة حينًا، والألوان الزاهية المشرقة حينًا أخرى، والاعتماد على أسلوب الكولاج في بعض اللوحات، من خلال المزج بين العناصر المتعددة، كالورق والكنفاس والخشب والبلاستيك، وذلك ما أضفى عليها جمالًا خاصًا في المنظور والرؤية، وفي الموقف من بعض القضايا مثل لوحة عن الخراب الذي حل بغزة، واللوحة الدائرية التي تراكمت فيها كلمات تتصل بالمعاناة والاختناق الذي تعاني منه عدن.

لقد ضم المعرض العديد من اللوحات الجميلة لفنان تشكيلي يعكس الصبر والثبات والتحدي في وجه المعاناة التي يمرّ بها الفنانون التشكيليون في عدن، شأنهم شأن المبدعين عامة، من غياب الرعاية أو الدعم اللازم، من قبل مختلف الجهات المسؤولة التي لا ترى في الفن والأدب أية أولوية، لأنها لا ترى في الإنسان نفسه وجودًا حقيقيًا عدا كونه خلفية باهته لوجودها الصاخب.


لقد انتزعتني لحظات زيارتي للمعرض من الحاضر المثخن بالأوجاع والاستبعاد في مدينتي، إلى بعض أيامها الجميلة في الحقبة الثمانينية الحالمة، وإلى أيام جمعية التشكيليين الشباب في عدن، إلى ماض يقبع خلف جدار من السنين، إلى ما يقارب أربعين سنة من الأحلام والأصدقاء الباقين والراحلين، حيث رائحة الألوان الزيتية وقماش الكونفاس وأقلام الفحم والباستيل.. تلك الرائحة الطرية للوحة تتشكل في أيام وأسابيع وربما أكثر.. وكأنما تنبت من عظامك وتأخذ معها جزءًا من حياة.